ولد كتاب "ألف ليلة وليلة" في سياق الأدب الشعبيّ، الذي ترفّع عنه قدامى المثقفين، ولم يذكروه بين الكتب المرموقة، باعتباره خرافات ومضيعة للوقت، لكن اكتشافه اللاحق، على أيدي المستشرقين، وضعنا أمام نصّ متعدّد وغني على مستوى التأليف واللغة والرموز، ومنذ ذلك الوقت وهو في منزلة لم يصلها كتاب آخر. تعدّدت مخطوطاته، وتنوّعت ترجماته، وتكاثر دارسوه، وبات يواصل حضوره السحريّ في الثقافات بسبب لا نهائيته، وطريقة سرده القائمة على شخصٍ يروي لآخر، ما يسمح بإضافة كل ما يخطر على البال لكل من يرغب.
الكتاب بنية وسردًا
في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، يقول جرجي زيدان في وصف "ألف ليلة وليلة": "إنّها قصص مختلفة الموضوعات والأساليب والأغراض، عبارتها على الإجمال سهلة، تختلف قوة وصحة باختلاف القصص وعصورها".
يؤكد الباحثون والنقاد على أن الكتاب صيغة نهائية لأطوار عديدة مرّت بها الحكايات التي تحمل داخلها آثارًا تخصّ بيئاتها وأزمنتها المتلاحقة. فالطور الهنديّ تمثّله قصص الحيوانات، والفارسي يتمثّل في شهرزاد وشهريار، وهو تطوير لنموذج هندي، أما الطور العربيّ فيتمثّل في قصص الخلفاء العباسيين، والمغامرين كالسندباد، والعيّار والشطّار كمعروف الإسكافي. إلا أن نذير العظمة يرى في دراسة بعنوان "ألف ليلة وليلة وتناسل الرموز" أنه لم يبق من النص الهندي وترجمته الفارسية شيء سوى الأطر السردية وبعض أسماء العلم.
في العموم، يكشف شكل النص عن أساسه الشفهيّ، فكثيرًا ما ترد عبارات مثل "حتى يطرب السامع ويطيب"، ما يعني وجود جمهور وراوٍ، أكثر مما يعني علاقة بين قارئ ونص مكتوب، كذلك يلعب السجع دوره في الإشارة إلى أن الحكايات كانت تقدّم إلقاء بالأساس، لكون المحسنّات البديعية تسهّل ذلك وتقرّبه من الناس.
تقوم التقنية على "الحكاية الموطّرة"، وهي حكاية شهرزاد وشهريار التي تشدّ كل الحكايات الأخرى، ثم تليها "الحكاية المضمّنة" وهي تشمل كل القصص التي تتناوب وتتداخل فيما بينها، أثناء حكي شهرزاد في لياليها لدفع القتل عن نفسها.
جدل في الأصول
أكّد المستشرق الفرنسي أنطوان غالان، أول مترجميه، على الأصل الهنديّ للكتاب. أما المستشرق النمساوي فون هامر فنبّه إلى أن المسعودي ذكره في "مروج الذهب" مشيرًا إلى أصله الفارسي، وأكّد ذلك ابن النديم صاحب "الفهرست" حيث رأى أن أوائل جامعي الحكايات كانوا من الفرس الأوائل، ولاحظ أن ملوك إيران الساسانيين، الذين حكموا بين القرن الثالث والسابع الميلادي كانوا مولعين بهذا النوع من الحكايات.
ويرى ديفيد بينولت، الذي وضع كتابًا حول "ألف ليلة" أن الاهتمام العربي بالقص الشعبي الفارسي بدأ منذ عهد مبكر. ولعل الآية القرآنية في "سورة لقمان": "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين"، تقصد مجموعة من الناس كانوا يتداولون تلك الخرافات في زمن الرسول، وتفسير "لهو الحديث"، حسب "كشاف" الزمخشري، هو حديث الأسمار والخرافات وحكايات الجن والملح.
أما المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي، فأنكر وجود عناصر هندية وفارسية، وكشف أن الكتاب أُلّف في عهد متأخر، واعتبر نصّ المسعودي منحولًا.
حمّى الترجمات
بدأت رحلة هذا السفر السردي النفيس مع الترجمة على يد المستشرق أنطوان غالان، فخلال عمله سفيرًا لبلاده في إسطنبول، في القرن الثامن عشر، وصل إلى نسخة منه خلال بحثه عن التحف والمخطوطات، فقام بترجمتها إلى الفرنسية. صحيح أن ترجمته لم تكن مطابقة للأصل، فسوى أنها شهدت حذفًا وإضافة كبيرين، عملتْ على محاولة مخاطبة الذوق الفرنسي آنذاك، إلا أنها كانت حجر الأساس في انتشار الكتاب، حيث ترجمت النسخة إلى مختلف اللغات الأوروبية، ولاقت نجاحًا هائلًا، ما فتح الباب أمام ترجمات لا حصر لها، تطمح إلى الوصول إلى الاقتراب من النسخة الأصلية.
يقول خورخي لويس بورخيس في دراسة شهيرة عن مترجمي الكتاب: "ترجمة غالان، حرفيًّا، هي أسوأها جميعًا صياغة، وأشدّها كذبًا وضعفًا، بيد أنها أكثر ترجمة قرئت".
سلالات من الطبعات
طبع الكتاب في فرنسا وإنجلترا، خلال القرن الثامن عشر فقط أكثر من ثلاثين مرة مختلفة، ونشرت الليالي قرابة 300 مرة في لغات أوروبا.
عربيًا كانت الطبعة الأولى هي طبعة "كلكتا" التي أصدرها الشيخ الشرواني عام 1818، ثم ظهرت طبعة "بولاق" في مصر عام 1835، وهي أشهر طبعة شرقية، وبعدها بثلاثين سنة ظهرت طبعة "بولاق" الثانية، واعتبرت الطبعتان تعيينًا للكتاب، وصارتا معتمدتين.
تأثيرات عالمية
هناك إجماع على أن الكتاب صاغ صورة الشرق في الغرب، وله تأثير كبير في قوة حركة الاستشراق. وبحسب سهير القلماوي في دراستها الأساسية في هذا المجال: "أصبح الشرق عند كثير من هؤلاء القرّاء الغربيين يساوي ألف ليلة وليلة".
ومن جهته، رأى إدوارد سعيد في "الاستشراق": "أدى سحر ألف ليلة وليلة إلى جعل الأوروبيين يخلطون بين الشرق الحقيقي وشرق الحكايات".
غوته كان يحفظ حكاياته إلى درجة أنه كان يلعب دور شهرزاد عندما تتاح له الفرصة، وكان في صباه وفي شيخوخته يستخدم رموز الحكايات وصورها في رسائله، كان بالنسبة له "كتاب العمر". فولتير قال إنه لم يكتب القصص إلا بعد أن قرأه 14 مرة، وستندال تمنّى لو أنه يزال من ذاكرته لكي يتمكّن من قراءته مرة أخرى.
بورخيس الذي كان واحدًا من كبار عشّاق الكتاب والمتأثرين به لديه تفسير شعريّ لعنوانه، إذ يعتبر أن إضافة كلمة "ليلة" إلى الليالي الألف التي تعني الخلود أو الأبد أو اللانهاية أصلًا، تحقّق معنى عميقًا في الوصول إلى ما وراء الأبد.
كلمات عن شهرزاد
"في البدء هناك خزانة"، يكتب عبد الفتاح كيليطو في "العين والإبرة"، راميًا إلى أن شهرزاد لم تجمع مروياتها شفاهيًّا، إنما جمعتها من بطون الكتب. يقول: "أساتذتها هم الكتب فقط". هذا عن المادة أما عن الراوي فهناك رأي هام للعراقي محسن مهدي، أستاذ الدراسات العربية في هارفارد، إذ يرى أن شهرزاد امرأة وثنية، تعيش في بلد وثني، في زمن وثني، خارج إطار الأديان السماوية، ولهذا حين تزعم أنها تتحدّث عن أحداث الماضي هي في الحقيقة تتنبأ بأحداث قادمة.
اقرأ/ي أيضًا: