10-يوليو-2016

مشهد من مسلسل الأسطورة

منذ عام 2009 يمكن ملاحظة شيوع ظاهرة جديدة في الأفلام المصرية، وهي سيطرة الأفلام التي تغمرها مشاهد القتل والمطاردات والأسلحة البيضاء والعلاقات الاجتماعية المشوهة على صالات السينما.

يأتي معظم ما نشاهده الآن على الشاشات كنتاج شرعي لثقافة التخلف

كانت إعلانات تلك الأفلام تذكرني بأفلام موجة الكاراتيه والكونغ فو الشهيرة في الثمانينيات، حيث يكون الفيلم عبارة عن معارك متلاحقة ينتقم فيها البطل من الأصدقاء قبل الأعداء، وقد شهدت تلك الأفلام فترتها الذهبية وسيطرت على سينمات الدرجة الثالثة، تتوّج أفيشاتها مداخل دور العرض وتصاحبها عبارة "ثلاثة أفلام في بروجرام واحد". تبارت الأقلام حينها -2009- في الدفاع والهجوم على هذه الأفلام، وحقيقة الأمر أن معظم المدافعين، وأنا منهم، لم يكونوا مقتنعين بما يقولونه عن حرية الإبداع وضرورة مشاهدة كل التجارب، لأن "هذه الأفلام" تفتقد كثيرًا من مقومات العمل الفني الجيد بالأساس، لذا ظلَّ الدفاع عنها يتمّ من منطق ورؤية "حقوقية" بصورة كبيرة.

وتمر الأيام ويتزايد عدد "هذه الأفلام" وتنحو الذائقة المصرية نحوها بعد أن أدرك المنتجون سرّ انجذاب الجمهور وعرفوا "كيف يأتون برجله إلى السينمات"، ونجد أنفسنا في 2016 نبحث عن فيلم جيد يتوفر على الحد المقبول من العناصر الفنية فنصير كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ، وتداهمنا الصور ذاتها، قتل مجاني وعنف مجاني ودماء رخيصة ورقص مبتذل وعري لا مبرر له وجنس ساذج، ولكن الجديد أن هذه الصور أصبحت تدخل البيوت دون استئذان في المسلسلات التي يمثل الشهر "الفضيل" موسمها الكبير.

من المؤسف أن تداهمنا الفضائيات بهذه اللحظات الوقحة التي تبتذل المشاعر الإنسانية، وتسرق طيبة الحياة، وبساطتها، ومنطق بهجتها. مؤكد أن الناس في بلادنا معذبون، مهزومون بالفقر والجهل وجحيم الأمراض، يعيشون زمن الردّة، زمن الفجوات الفاصلة، التي تؤكد عجز تيارات الفكر والعدالة والوعي عن الوصول إليهم، حيث يتضح أن الفن يفتقد إلى الطريق إلى الأجيال الطالعة، التي تلعب بالقنابل والمتفجرات وتختار العنف سبيلاً للوصول إلى ما تريد، ورغم ذلك تغيب قوة مصر الناعمة في بيزنس الإعلانات وهراء البرامج وعنف المسلسلات، تلقي بصفعاتها على وجوه البسطاء، تصادر أحلام البقاء وامتلاك الذات وتأتي كإعلان صريح من أصحاب الأموال عن موت الفكر وانهيار آلياته وعدمية ثقافته، التي لا يشكّلها إلا العنف والعبث والموت والوحشية والإرهاب، فهل نحن بحاجة إلى مزيد من الهزائم والانكسارات؟

اقرأ/ي أيضًا: دراما رمضان والفانتازيا التركية

يأتي معظم ما نشاهده الآن على الشاشات كنتاج شرعي لثقافة التخلف، التي مازلنا نعيشها بقوة، وإذا كان وجودنا الحالي يشهد أسوأ تيارات الجهل والتعصب ويموج بإيقاعات السقوط والانمحاء، ويستوعب قيمًا جديدة هابطة وأفكارا شاذة تمنحها حكايات المسلسلات حضورًا ممتدًا، فمن المؤكد أن الثقافة تحتضر والوعي يموت. وليس هناك من يدرك أن الفن بصفة عامة والدراما التلفزيونية بصفة خاصة، يمتلكان قوة ضاربة تخترق عقول الناس وتشكِّل أعماقهم، خاصة في ظل غياب الوعي النقدي وانتفاء القدرة على التساؤل.

يُلاحظ على أغلب المسلسلات الرمضانية الجماهيرية اتجاهها إلى الرداءة والاهتراء والاستخفاف بعقول وعيون المشاهدين، وكأن هناك اتفاقًا بين صانعيها. نشهد على الشاشات موجات مجانية من الدم والقتل والبلطجة والجنس والدعارة والمخدرات والأمراض النفسية والعوالم السفلية، وجميعها منقول بلا حرج من تجاريات هوليوود وشبيهاتها في إسبانيا وتركيا، وجميعها يتم تقديمه في سياق متحلل من أي رؤية فنية أو نقدية، ويظل وجودها العشوائي والمجاني هذا بابًا لتأويلات شعبوية نجدها في صفحات الحوادث، التي تبشرنا بصبية ومراهقين يرتكبون جرائم تشابه طريقة تعامل أبطال دراما العشوائيات وثقافة الذراع مع ما يعترضهم من مشكلات وعراقيل "محمد رمضان نموذجًا"، وهم في الحقيقة كائنات هجينية اخترعها صنّاع دراما العشوائيات من طول مشاهدتهم لأفلام التشويق والإثارة الأمريكية وأضافوا عليها "التاتش المصري" الذي استنّه مخرج رديء مثل خالد يوسف في أفلامه التي قيل عنها إنها "صوت من لا صوت لهم".

المشكلة الأساسية ليست في وجود الجنس أو المخدرات أو العنف على الشاشة ولكنها في الكيفية التي يتم بها فعل ذلك والأسباب الفنية من ورائها

من الضروري هنا تأكيد أنني لا أميل ولا أقتنع بما يسمى "الفن النظيف"، الذي يقول مروّجوه أنه يخلو من كل ما يجرح مشاعر أو أنظار المشاهدين، والذي تفرّع منه في بداية الألفية الجديدة مصطلح "السينما النظيفة" السخيف، وأرى أن معايير الجودة الفنية وحدها هي القادرة على تقسيم وتصنيف المنتج الفني وفق أحكامه وليس وفق أهواء الأخلاقيين. فهناك عمل فني جيد وآخر رديء فحسب، بصرف النظر عما يحتويه من مشاهد أو يتبعه من أساليب.

وإذا كانت الضرورات الفنية والدرامية تقتضي وجود مشاهد عنف أو جنس، على سبيل المثال، فلابد من وجودها والعكس صحيح، على أن يُترك قرار ومسئولية المشاهدة للمشاهد نفسه، الذي لا يجب أن يكون أحد وصيًا عليه أو على اختياراته. وحتى لا يتهمني أحد بالتحفظ الأخلاقي أو تقييد الإبداع، أقول إن المشكلة الأساسية ليست في وجود الجنس أو المخدرات أو العنف ولكنها في الكيفية التي يتم بها فعل ذلك والأسباب الفنية من ورائها، فما نشاهده هو عبارة عن تكريس مخيف لهدم منظومة القيم الاجتماعية والإنسانية، واختراقًا سافرًا لكل مفاهيم العلاقات الأسرية، في انعكاس مباشر وإفراز طبيعي لحالة الجنون والهستيريا والبارانويا التي يعانيها المجتمع المصري في السنوات الأخيرة.

أما الاستخدام المفرط للألفاظ "المبتذلة" فهو يثير العديد من التساؤلات حول إخضاع الدراما والبرامج التلفزيونية إلى القواعد المعمول بها في الخارج، بحيث يتم تصنيفها وفقا للفئة العمرية وللمضمون كي يعرف المشاهد ما هو مُقدم على مشاهدته. هكذا يفعلون في الخارج "قليل الأدب"،"المنحل"، "الكافر"، ولكن واقع الأمور يقول إننا أسوأ.

اقرأ/ي أيضًا:

"ونوس".. جنة شياطين عبد الرحيم كمال

10 مسلسلات سورية للنقد والمتابعة في رمضان