تدعو رواية "استسلام" للإسبانيّ راي لوريغا (دار مسعى 2019، ترجمة محمد الفولي) قارئها إلى تلمّس مرجعياتها الأساسية، بل والتوقّف عندها مطوّلًا لأجل معرفة ما يربطها بها، أو كيف ترتبط بها إذا جاز التعبير. تُثير الدعوة التي لا يُمكن الفكاك منها إشكالية كبيرة، فبينما تستجيب لها فئة معيّنة بوضع الرواية ضمن مسار رواية "1984" لجورج أورويل، تفضّل فئة أخرى أن تضعها بالقرب من رواية "نحن" ليفغيني زامياتين. وبعيدًا عن هاتين الروايتين، يعتبرها البعض قريبة من "عالم جديد شجاع" لآلدوس هكسلي، وهلمّ جرّا.
الصحيح أنّ مسار رواية راي لوريغا يتقاطع مع مسار الروايات السابقة، ويأخذ منها، بنسب متفاوتة، عناصر مُعيّنة ليُعيد تقديمها ليس وفقًا لوجهة نظر مختلفة، وإنّما انطلاقًا من مراعاة التحوّلات الزمنية والتاريخية وتبدّلاتها. ولكنّ التقاطع بعينه لا يُخفي حقيقة أنّ الرواية إذا كانت تتشارك مع روايات "نحن" و"عالم جديد شجاع" فكرة أو موضوعًا معيّنًا، فإنّها قائمة من الأساس على المسارات التي وضعتها "1984" لكيفية بلورة الدكتاتورية.
تبدو "استسلام" لراي لوريغا وكأنّها تُحاول أن تقوله ما قالتهُ رواية "1984"، ولكن بلغةٍ أساسها مراعاة السياقات التاريخية المختلفة
اقرأ/ي أيضًا: رواية "فكّر فيَّ غدًا أثناء المعركة".. التنقيب في أسرار القلب البشري
تبدو "استسلام" بهذا المعنى وكأنّها تُحاول أن تقوله ما قالتهُ "1984"، ولكن بلغةٍ أساسها مراعاة السياقات التاريخية المختلفة. إنّها، بقصدٍ أو دونه، تنقل مسارات رواية جورج أورويل إلى زمنٍ جديد كلّيًا وأكثر حداثة. والمسافة بين الزمنين المُتخيَّلين بطبيعة الحال، دون إغفال تفاصيلهما وسيرورتهما المختلفة، هي ما تشكّل أو تبني رواية لوريغا. لأنّ اللعب على حبال الزمن والتفاصيل المُتغيّرة بتغيّره، شكّلت روح العمل.
هل يُمكن فعليًا قراءة رواية من خلال الاتّكاء على أفكار ومضمون رواية أخرى؟ أو عبر مقارنتها بها؟ لربّما يبدو الأمر ممكنًا في حالة "استسلام" التي تتعامل مع "1984" كمرجعية لها، لا سيما وأنّها مبنية على مساراتها الموضوعة من خلال تخيّل مُفزع مارس أورويل في سياقه تفكيك الأنظمة الشمولية والثورات المنهوبة وأحوال الخنوع والاستسلام، بعد أن وزّعها، المسارات القائلة بكيفية الحفاظ على الدكتاتورية أكثر من كيفية بنائها، على: تدمير الحرية والخصوصيات وإفقار اللغة من معناها، وإلغاء الحقيقة، وإنكار الطبيعة، عدا عن نشر الكراهية، وحذف التاريخ، والطموح إلى بناء سيطرة كاملة وشاملة أيضًا.
حدّدت المسارات السابقة عالم رواية راي لوريغا الذي يُسيَّر بشره من خلال وضعهم تحت مراقبة دائمة تُدمّر حيواتهم الخاصّة والحميمية، وتنزع عنهم الشعور بالوحدة، وتوحّد كذلك رأيهم الذي تعمِّمه السلطة. كما يجري فيه فرض لغة جديدة مُفرغة تمامًا من معناها، ومُعاد صياغتها بحيث تكون لغة شفهية فقط أُسقط من متنها عددًا كبيرًا من المفردات التي لا تتوافق مع الحالة القائمة. بالإضافة إلى تحويل الأيديولوجيا المموّهة إلى علمٍ يُملي على الآخرين بشكلٍ عام ما يفكّرون فيه، ويُعيد إنتاج الواقع بموازاة العمل على محو الماضي وإعادة كتابة التاريخ وابتداع ذاكرة جديدة، وتدمير الرغبة بالحياة. ولكي تكتمل الوصفة، لا بدّ من خلق عدوٍّ واشعال الحروب.
تُجبر الحرب القائمة منذ سنوات طويلة بطل الرواية وزوجته وسكّان قريته على إخلائها باتّجاه مركز إيواء أقامته السلطات لهم، لأنّ القرية ستكون، قريبًا، ساقطة بيد العدوّ. يُمكن التعامل مع عملية إخلاء القرية بعد إجبار سكّانها على حرق منازلهم على أنّها المرحلة الأولى من مراحل حذف التاريخ وإعادة بناء ذاكرة جديدة. "مع رؤية المنزل يشتعل، أخذت الدهشة مكانًا ظننت أنّ الأسى سيحتلّه (...) أفترض أنّ كلّ الأشياء تتلاشى هكذا" (ص 34).
قبل الذاكرة، سوف يتلاشى أوّلًا شعور الراوي وسكّان قريته بالدهشة بمجرّد الوصول إلى مركز الإيواء. المفردة ذاتها تبدو مُغيّبة، ولا مكان لها في المركز الذي سيكتشف الراوي أنّه عبارة عن مدينة شفّافة سيعيشون تحت سقفها دون خصوصية، وداخل منازل مصنوعة من "نسيج شفّاف أكثر قوّة، لكنّه في الوقت ذاته أكثر شفافية من الشاش ليظهر ما يقبع داخلها، حتّى مرشّات الاستحمام" (ص 70).
المدينة الشفّافة تبدو طرحًا جديدًا يقدّمه راي لوريغا بدلًا عن العيون الإلكترونية التي تُراقب السلطة عبرها المواطنين في رواية جورج أورويل "1984". فالشفافية تُلغي الخصوصية بشكلٍ يضع السكّان تحت مراقبة بعضهم البعض، الأمر الذي يبدو أكثر فعّالية من الشاشات الإلكترونية، لأنّ الإنسان حينما يكون على مرأى جميع من حوله، تُثار عنده بالضرورة حاسّة الردع التي تحول بينه وبين أي تصرّف غير مألوف، كالرفض والتذمّر والاحتجاج، والأهمّ من ذلك، نقد السلطة، لأنّ "كلّ حوائط المدينة كانت شفّافة ولم يغب النور عنها قط" (ص 74).
تُثير الرواية عند قارئها سؤال: كيف لا ينتبه الناس إلى كلّ هذه التفاصيل؟ الجواب هنا هو أنّ المدينة الشفافة تُشغل الوافدين إليها بتفاصيل تصرفهم عن أمور كهذه، وعن الأسئلة الكبرى المتعلّقة بالسلطة والواقع السياسيّ. فالمدينة، حينما تفرض على بشرها أسلوبًا جديدًا من العيش يجد الفرد نفسه بموجبه معرّضًا للتذويب وسط جموع لا يعرفها، ومُجرَّدًا من كلّ مشاعره، السلبية منها تحديدًا، لصالح توسّع نفوذ "السعادة" المصطنعة التي تسلبه الحقّ بالرفض والتذمّر، وتبقيه مستسلمًا لكلّ ما حوله؛ إنّما تحصر بذلك تفكيره ضمن حدود سؤال واحد هو: ما الذي يحدث؟
هل يُمكن فعليًا قراءة رواية من خلال الاتّكاء على أفكار ومضمون رواية أخرى؟ أو عبر مقارنتها بها؟
يصف الراوي إذًا حال سكّان المدينة الشفّافة حينما يقول: "كانت تزرّر قميصها وتعقص شعرها في ضفيرة مرتجلة. نظرت نحوي بمودّة – دون ملمح للخجل – بينما يرفع صديقها سرواله (...) الحقيقة أنا لم أذهب للفراش، إذ إنّني منذ تلك الليلة انتقلت للنوم على الأريكة، بينما ذهبت هي والشّاب المغتصب الأنيق إلى ما كان قبلها بيوم فراشي" (ص 111/113).
اقرأ/ي أيضًا: رواية "علاج شوبنهاور".. المرض كتأمل في فلسفة الحياة
الراوي هنا غير قادر على الاعتراض على ممارسة زوجته الجنس مع شابٍّ آخر، دون خجل بل وعلى مرأى منه أيضًا، ممّا يجعل من مسألة القدرة المسلوبة كلّ ما يشغله، بدلًا من مسائل أخرى، منها مثلًا: لمن ذهبت السلطة؟ ماذا بشأن الحرب؟ ماذا عن الدكتاتورية؟ والحال أنّ الراوي هنا مرآةً لسكان المدينة، وما ينطبق عليه، ينطبق على الجميع. هكذا، يكون لدى الدكتاتورية وقت كاف لتثبيت أركانها بينما الناس منشغلون بما لا يتعلّق بها، ووفقًا لمسارات رواية "1984"، بدءًا من تدمير الحريات، ووصولًا إلى إعادة إنتاج واقعٍ جديد لا يمسّ بأي شكلٍ من الأشكال السلطة القائمة.
اقرأ/ي أيضًا