منذ سنوات هناك ثمة تصوّر لدى عدد كبير من أدباء ومثقفي العرب بأن الحديث عن الحب والعلاقات العاطفية والجنسية في إيطاليا تحديدًا يبدأ من ألبرتو مورافيا، وربما ينتهي عنده أيضًا، حيث كان ذلك الكاتب شديد الإيمان بالأدب وعلاجه للمجتمع والأشخاص داخله، ما جعله يردد "إن الأدب بوسعه أن يحل محل الدين"، وكان من أهم الأدباء الإيطاليين الذين تُرجمت بعض أعمالهم للعربية، وبالرغم من أن الأدب الإيطالي عمومًا ينال قسطًا ليس كبيرًا من الترجمة إلا إنه لا يزال يحتفظ بخصوصيته وتفرده، لا سيما قرب شعورنا كعرب به نتيجة قرب الثقافات من بعضها.
ثمة تصوّر لدى العديد من أدباء العرب بأن الحديث عن الحب والعلاقات العاطفية في إيطاليا يبدأ من ألبرتو مورافيا
قدم المترجم المصري إسلام فوزي إلى القارئ العرب رواية الكاتبة الإيطالية ميلا فينتوريني (56 عام) التي تحمل عنوان "الحب لم يعد مناسبًا"، (دار العربي، 2017). الرواية التي تعتبر الثانية لها في عالم الأدب، بعدما شاركت أيضًا في كتابة سيناريو أعمال تليفزيونية متعددة: "طبيب في العائلة"، و"مكان تحت الشمس". وكتبت أيضًا قصص قصيرة في المجلات، كما تكتب قصصًا بوليسية للأطفال.
اقرأ/ي أيضًا: "آخذك وأحملك بعيدًا"..رواية عن بؤساء إيطاليا
خلال استضافتها في أحد اللقاءات التلفزيونية للحديث عن أعمالها الأدبية قالت ميلا فينتوريني إنها منذ كتابة رواياتها الأولى، التي كانت بعنوان "اثنان من كل شيء وحقيبة" كانت من وحي قصتها الحقيقية بعد انفصالها من زوجها، حيث كان أولادهما يعيشون أسبوعًا عند والدهم ومثله عندها، وبنيت رواياتها على هذا الأساس، كما استندت ميلا فينتوريني أيضًا خلال كتابتها للقصص على وقائع حقيقية، إلا أنها بخلاف عادتها قالت إن بناء هذه الرواية وحبكتها اعتمد على خيالها في الغالب بجانب مقابلاتها مع أصدقاء أولادها ومحاولة التعرف على طريقة تعاملهم مع الحب وما يمكن أن يمثّله لهم وقد بنيت أشياء من الرواية على هذا الأساس.
تبدأ أحداث الرواية بالحديث عن الحب ومشاكلاته من خلال حوار بين جيلين تتداخل مصائرهما وأقدارهما لخلق علاقات حب فيما بينهما على غير رغبة منهما، أو هكذا يعتقدون. حيث تظهر محاولات عديدة من بطل الرواية، أستاذ الثانوية لمادة الفلسفة والتاريخ فيديريكو سيربييبري، الذي ترك وظيفته كأستاذ في الجامعة بعد أن رحلت عنه زوجته وطلبت الطلاق. مما جعله يذهب بعيدًا إلى مدرسة للتعليم الأساسي، ويدرّس طلبة الصف الثاني الثانوي مادته، لكن يحاول أن ينقل لهم الدرس الأهم الذي تعلمه في حياته، والذي يرى أنهم لا بد أن يتعلموه وهم لا يزالون في سن صغيرة، وهو ضرورة الابتعاد عن الحب. يحث طلابه على الابتعاد عن الحب وعدم تصديق مشاعرهم، لأن ذلك من وجهة نظره يسبب الكثير من الألم والحزن باعتباره سعادة زائفة.
لكن القصة التي "تدّعي" أن الحب لم يعد مناسبًا، تخط أوّل كلماتها بتأمل وتفكير أحد طلاب المدرسة الثانوية التي تدور فيها القصة؛ أرنستو في ملامح حبيبته جوليا التي كانت قريبة منه وفي نفس الوقت بعيدة عن قلبه، بالرغم من أنها كانت تحبه أيضًا "لكنهما كانا كالأبكم الذي يريد التحدث إلى أصم".
ترى الشخصية الرئيسية في "الحب لم يعد مناسبًا" أن الحب أساس كل بلاء وعماء
بينما تختلط مشاعر الولد أيضًا بوجع قلبه وحزنه على والدته الحبيبة تشيتشيليا باساني، التي تعمل أستاذة في المدرسة ذاتها التي يوجد فيها، قبل أن تنقطع عن العمل بسبب ترك حبيبها لها أيضًا، فأصبحت حزينة لا تغادر فراشها، "ودموعها التي تخرج بمفردها"، وتمتنع عن الانتحار فقط لأجل طفلها. بالتوازي مع القصة الأساسية للرواية التي تبنى على ضياع الأستاذ بسبب حبه من امرأة تركته، تجلس تلك المرأة في منزلها ولا تتجاوز حدود غرفتها أو سريرها، إذا أردنا الدقة، بسبب رحيل حبيبها بدافع الملل، بالتالي كانت البدايات كلها توحي بضرورة الحرص من الوقع في الحب إذا لم نقل رفض ذلك تمامًا لما يمكن أن يتركه بعد ذلك من حزن.
اقرأ/ي أيضًا: "فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة
على مدار العام الدراسي تدور أحداث الرواية، ويحاول الأستاذ "إنقاذ" هؤلاء الشباب من الوقوع في دوامة الحب وخداعه، وينصرف عن شرح التاريخ إلى وضع منهج آخر يرى إنه أهم، وذلك بشرح مخاطر العواطف والعلاقات، يقبل الأولاد ذلك الأمر بعد مشاروات ومشاحنات عديدة تنتهي بعمل تصويت أيّد أغلبيتهم استمرار هذا الشخص الغريب الذي يريد تغيير كل شيء لأن الحب "هو فقط سبب مأساة العاشقين".
مع الوقت ظهرت ثمرة عمله، حين طلب في إحدى المرات بفتح الطلاب للكشكول المخصص للملاحظات على الدروس الجديدة، حينها وجد على كشكول تلميذة جملة "الحب لم يعد مناسبًا لنا"، أعجب الأستاذ بالعنوان، لكنه حاول إخبارها بأن تحذف "لنا" ليصبح الأمر أكثر عالمية (وهو ما كان يتمنّاه بالفعل)، وأصبح العنوان الذي أسعد الجميع فقط لإرضاء الأستاذ "الحب لم يعد مناسبًا"، وبرر ذلك بأن النفع الذي تقع فيه تحت تأثير الحب خداع كبير، ولأن أساس الحب أن الإنسان يطمح في الأمان وباعتبار أننا في تطور مستمر، فالاستقرار شيء وهمي، وما الحب إلا أساس كل بلاء وعماء. كان الأستاذ يرى أيضًا إنه لا يمكن أن نسير في حياتنا دون أن نقع في غرام أحدهم، عن طريق عناصر ثلاثة؛ الوضع / الرائحة / المظهر. لذلك إن أحببت أحدهم عليك أن تتجنب النظر إليه، ورشّ أي مبيد سيئ الرائحة على ملابس الطرف الآخر حتى يمثّل تذكره أو رؤيته ما يثير غثيانك أو غضبك.
في سياق آخر كان الأستاذ يتابع مع طبيبه النفسي تطور حالته التي ساءت بعد رحيل زوجته مصطحبة معها طفلتهما الوحيدة، وأثر ذلك الألم الشديد على قلبه، لكن القدر الذي يلاعبنا دائمًا وأحيانًا "يغش في لعبه معنا" يجعله يتعرف دون إرادة منه على الأستاذة تشيتشيليا، والدة الطالب الذي يحبه كثيرًا مثل زملائه باعتبارهم تعويضًا نسبيًا عن غياب حبيبة أو زوجة أو أطفال، "يبصق" عليهم كل مشاعر الحب التي يحملها صادقًا وكارهًا في آن. سريعًا يقع الرجل الذي فشلت علاقته السابقة مرة أخرى في حب المرأة التي فشلت أيضًا علاقتها السابقة، ثمة مكافأة أو عقاب في انتظارهم؛ رجل وامرأة هزمهما الحب مرة، فوقعا فيه مرة أخرى دون إرداة أو ترتيب.
اعتقد الرجل بعدها وهو يقرأ قصائد عاطفية في منزله أن ذلك ربما يكون الحل؛ "أن يطهو نفسه على نارٍ هادئة في شعور الحب حتى يجعله عاديًا"، خصوصًا بعد أن أخبره الطبيب النفسي (الذي رفض الأمر في البداية لكنه لم يجد مفر أيضًا) أن ذلك أيضًا نوع من العلاج، يسمى العلاج التجانسي؛ وهو ما يعني أن العلاج يحمل أعراض مشابهة للمرض يسهل التحكم فيها، "وإن كان ما يضعفنا هو الوقوع في الحب، فأفضل طريقة أن نخوض قصة حب مشتعلة، وأن الحب شكل من أشكال العته الذي يمكن العلاج منه"، لم يكن يدري أن جملته تفقد صلاحيتها إذا كتبت بغير "لا"، أي أن الحب شكل من أشكال العته الذي لا يمكن الفكاك منه"، وذلك لو جاز لنا اعتباره أحد أشكال العته.
في "الحب لم يعد مناسبًا"، رجل وامرأة هزمهما الحب مرة، فوقعا فيه مرة أخرى دون إرادة أو ترتيب
بالرغم من أنهما لم يكونا متزوجين وقت لقائهما، بل إنهما تجاوزوا علاقاتهما القديمة، إلا أن الأستاذ ظل يشعر بالذنب من علاقته وحبه مرة أخرى من زميلته المدرسه تشيتشيليا، كان اعتراف تلك المرأة له "بمثابة طلب يائس لمساعدته"، فأحس تجاهها بحنان لا نهاية له، لكنه يعلم إنه لا يستطيع تقديم العون لها، وشعر بكل ذلك وهو يحتضنها بقوة حتى كاد يخنقها.
اقرأ/ي أيضًا: لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان
كان أحد الفلاسفة يردد دائمًا أن الحب ما هو إلّا "ثقة تامة في الصدفة"، على ما يبدو أن ذلك هو ما حدث وحرّر بطلنا حتى دون أن يدري، حيث أنه كان يشعر بحسن حظه لعثوره "صدفة" على المرأة الأكثر روعة، ولم يكن يفهم لماذا لا يظل كل الرجال في هذه المدينة الشاردة خارج أبواب بيوتهم للبحث عن الحب الذي يأتي صدفة دون أن ندري، هو متأكد أنه لم يجرب من قبل لوعة كهذه منذ أن انفصل عن دورينا (زوجته القديمة)، كما أنه متأكد من أن تلك المرأة استولت على قلبه فجأة. على ما يبدو أن الحب عمومًا يظل لغزًا غامضًا سواء له أو للجميع، فكل إنسان معرض لأن يقع ضحية لسحر الحب اللعين، وهو أولهم ، بعد أن أدرك ذلك لم يستطع أن ينجو بنفسه، وخان كل مبادئه" دون أن يدري لماذا.
لكن الأمر لا يستمر جميلًا لفترة كبيرة، فسرعان ما يشعر الرجل بالخطر، يمتنع عن الذهاب للمدرسة عندما يعلم أن الابن أرنستو وبقية الفصل يعرف قصة حبّه الجديدة في الوقت الذي يعمل الرجل جاهدًا ليمنعهم عن الحب، يقع فيه هو، لكنه لا يعلم أيضًا أنهم يعرفون من البداية قصة مرضه النفسي ويتعاملون معه من هذا المنطلق. تعطي الكاتبة نضج التعامل لصالح الأطفال على حساب الكبار، لولاهم لما اكتملت تلك العلاقة بين شخصين ينجو أحدهما بالآخر.
في الختام تنتهي الرواية بجلوس أحد الطلاب بعد انتهاء الدراسة في القطار، أمامه فتاة جميلة يشعر بانجذابه إليها ويحاول مقابلتها أثناء رحلة إجازته الصيفية، في حين أننا لا ندري على وجه التحديد اختيار الكاتبة تسمية الرواية "الحب لم يكن مناسبًا" إن كان من باب السخرية واستحالة الأمر، أم من استمرار وقوعنا فيه ومقابلة عواقبه وحزنه دون أن نستمع جيدًا لتلك النصيحة!
اقرأ/ي أيضًا: