يعود أول تعثر لي بروايات أمين معلوف إلى بدايات الألفية الثانية، وبالضبط صيف 2004 في معهد العالم العربي بباريس، حيث رأيت الكثير من البوسترات له مع أدباء وشعراء آخرين مثل غسان كنفاني ومحمد ديب وآسيا جبَار ومحمود درويش.
لعل أكثر ما لفت انتباهي في مؤلفاته وجعلني اقتنيها مباشرة، بعد عودتي إلى البلاد، هو كتاب "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، الذي قرأته على نفَس واحد، وأعرته بعدها لأستاذتي في الجامعة.
استمر سفري في عوالم أمين معلوف الأخّاذة والمحملة بالسحر، وبحمولات الشرق الحضارية. قراءته لذة ومتعة خرافية، تجعلك تدمنه وتعود إليه كلما استبد بك الحنين لزمن مُهرب من صفحات "ألف ليلة وليلة" وحكايات التراث العربي.
تظهر الشخصية الرئيسية في رواية "القرن الأول بعد بياتريس" في حالة من الإخلاص لروح الأنثى كابنة وامرأة قوية ومختلفة، لها لمستها الساحرة على الأشياء والوجود والحياة ككل
لكن لقائي بروايته "القرن الأول بعد بياتريس" غريب، فهي الوحيدة التي لم أجد فيها شغفي القرائي، ولم تترك فيّ أي أثر بعد انتهائي منها. لكنّ حديثًا عابرًا مع إحدى صديقاتي أعادها إلى سطح ذاكرتي مجددًا، أو حين تتشعب التفاصيل بين امرأتين من الحياة الخاصة إلى العامة، ثم الشعر والكتب. لا أذكر كيف حط بنا بساط الحوار في أفق أمين معلوف، ما أذكره أنّ الصديقة كانت مدافعة عن الرواية ومنصفة لها، ولم أتمكن حتى من القول بأنها لم تعجبني، إنما اكتفيت بوعدي لها بأنْ أقرأها بعيونها وبرؤيا مختلفة، وها أنا أفي بوعدي وأفعل بعد مرور قرابة العقد من الزمن.
وأد الإناث في عصر النجوم
عرف المجتمع الجاهلي ظاهرة وأد البنات لاعتقادهم الخرافي أنهن يجلبن العار والفقر، وقد ورد ذلك بشكل صريح في النص القرآني، وتعدت هذه الظاهرة شبه الجزيرة العربية إلى الصين، واستمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر بشهادة التبشيريين وعلماء الأنثروبولوجيا، وفي الهند وبعض الدول الأسيوية أيضًا.
تمتد أحداث النص الذي يصنف في خانة الخيال العلمي بين 1993 حتى مطلع 2030. وتكتمل الحبكة لحظة مكالمة كلارنس صديقها ورد، وهو عالم حشرات مقيم بباريس، حيث تطلب منه أن يخبرها بمدى تطابق مواصفات علبة فول الجعران التي أحضرها من مصر مع تلك التي وجدتها في كوجارات بالهند، أثناء مهمة صحفية عن المحارق التي تتعرض لها النساء هناك.
ويعرف هذا المستحضر بأنه يقوي الخصوبة الذكورية على حساب الخصوبة الأنثوية. لكن تقرير كلارنس لم يلق اهتمام جريدتها، بل قوبل بالسخرية والاستخفاف، ما تركها في حالة إحباط ويأس، جعلت البروفسور ورد يشد من عزيمتها ويصر عليها بأن تمضي في التقصي عن الموضوع، واعدًا إياها بالمساعدة، وفعلًا كشف لقاؤه بصديقه وعرّابه أندري وصديقه ايمانويل ليف حقائق مرعبة عن تصنيع عقار في مخابر دول الشمال، مخصص للإجهاض الانتقائي لحمل النساء، في حالة كان جنس الجنين أنثى.
الأبوة النادرة
ليس ببعيدٍ عن التيمة الرئيسية للرواية، يستوقفنا العنوان واسم بياتريس تحديدًا، وهو اسم ابنة البروفيسور ورد، وهو الاسم الذي اختاره لها حتى قبل أن تأتي إلى الحياة أو يفكر في إنجابها. وكان يؤرخها بتقويم خاص يحمل اسم "بعد وقبل مجيء بياتريس" على صفحات يومياته، مسجلًا وفقه الأحداث الكبرى التي عايشها وتطلعاته، متأملًا بأن يصير العالم أكثر رأفة وتسامحًا، وأقل كراهية ووحشية.
هذه الأبوة الاستثنائية تبدي تقاربًا عميقًا بين الأب وابنته، أو صداقة متحررة من قيود الرقابة الأبوية وسلطتها. كما يظهر لنا جانب آخر من شخصية البروفيسور ورد، المخلص لروح الأنثى كابنة وامرأة قوية ومختلفة لها لمستها الساحرة على الأشياء والوجود والحياة ككل، وهو ما ذكرني بكتاب "الوصايا" للكاتب السوري فادي عزام، الذي خصصه لابنته أيضًا قبل أن تولد، وتلتقي وصاياه بالكثير من تفاصيل علاقة ورد بابنته ورؤيته لمستقبل علاقتهما، دون أن نغفل السعي الحثيث للبروفيسور ليضفي أجواءً من الهدوء والانسجام في خط سير بياتريس حتى يوصلها لبر الأمان، في خضم حقبة مليئة بالحروب والصراعات العرقية، وحتى أنه كان الأم والأب معًا في غياب والدتها بحكم عملها كصحفية وترحالها الدائم، وهذا سر نضاله الدؤوب وتنفيذ وصية صديقه أندري بتأسيس شبكة العقلاء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خراب وتدمير للجنس الانثوي ولطبيعة الأم.
الطبيعة والقيم الإنسانية
"إنها ملحمة رجلِ متعلق وشغوف بأنثوية العالم" هكذا وصفت الروائية والمحررة جوزيت اليا الرواية في مقال لها في مجلة "le nouvel observateur"، والذي نشر جزءًا منه موقع دار غاليمار وعدد من مواقع القراءة والنقد. يزيح المقال عن الرواية إجحاف تصنيفها كديستوبيا تضج بالحروب والصراعات الدموية، وبهوس الإنسان الجنوني بتدمير قوانين الطبيعة وسيرورتها المبنية على تضاد الجنسين وتقاسمهما أعباء الحياة وتفاصيلها.
لا يغفل أمين معلوف عن تمرير رسائله العميقة حول واقعنا الذي يستحق أن يكون أكثر إيمانًا بالمحبة والعدالة والتسامح، في عالم يسوده السلام والمساواة بين الجميع دون استثناء.
تتجلى فرادة النص في انفتاحه على ما يلامس دواخل قارئ توّاق إلى الجمال، وكل ما هو مختلف. أبيات الشاعر الفرنسي غيوم أبولينر في الافتتاحية كانت مدخلًا ذكيًّا إلى تخوم الطبيعة الأم، وعلى نحو جمالي أخاذ، متمثلًا في البروفيسور ورد، عالم الحشرات المتحدث عن نفسه من الصفحات الأولى، الذي لا يعني له تخصصه حقل معارف تراكميًا ومحضراتٍ وسفرياتٍ، بل كان جذوة شغف متوقدة تخفت وتتأجج، لأنه يعيش حالة من التماهي التام مع الحشرات دون أن يشعر القارئ بالقرف والضجر، إنما يتحدث عنها بعرفان وتقدير متناهٍ كونها شريكًا لنا في هذا الكون، تمنحنا ليس العسل والحرير وحسب، بل تساهم في صناعة طعامنا وتحافط على التوازن البيئي.
أما أمين معلوف فكما هو دائمًا، لا يغفل عن تمرير رسائله العميقة حول واقعنا الذي يستحق أن يكون أكثر إيمانًا بالمحبة والعدالة والتسامح، في عالم يسوده السلام والمساواة بين الجميع دون استثناء.