ألترا صوت - فريق التحرير
تبدأ رواية "المئذنة البيضاء" للكاتب السوري يعرب العيسى بجملة تقديمية كاشفة، تلخّص كل ما سترويه: "إذا ما بعت روحك للشيطان فأحسن استثمار الثمن، لربما احتجت أن تشتريها ثانيةً ذات يوم".
في الرواية الصادرة مؤخرًا عن منشورات المتوسط، تبدأ الأحداث وتنتهي في المكان ذاته، تحت عين المئذنة البيضاء التي تعلو الباب الشرقي لدمشق، وتنتظر عودة النبي عيسى ابن مريم ليقتل المسيح الدجّال ويقيم العدل في الأرض. وبين الحدثين يلاحق الراوي بطله على مدى ستة وثلاثين عامًا يتنقل فيها من بيروت إلى الإمارات وقبرص والصين واليونان ودمشق، ويروي من خلال سيرته النادرة التاريخ السياسي والاقتصادي للشرق.
تبدأ رواية "المئذنة البيضاء" تلخّص كل ما سترويه: "إذا ما بعت روحك للشيطان فأحسن استثمار الثمن، لربما احتجت أن تشتريها ثانيةً ذات يوم"
تبدو الرواية شديدة الواقعية ومزدحمة بالأحداث، وفيها الكثير من الوقائع المجهولة والمشغولة بنَفس الصحافة الاستقصائية، مركّبة على إسقاطات أسطورية عميقة ومتجذّرة في وجدان هذه البقعة من العالم، دون أن تذهب باتجاه الغرائبية، وتحافظ على موقع الأحداث في الحياة الواقعية وبزمنها الواقعي، وتجلب الأسطورة إلى الواقع وليس العكس. أي أنها تفعل تمامًا عكس ما فعلته الواقعية السحرية.
اقرأ/ي أيضًا: "السقوط في الزمن".. أقدمُ المخاوف
تتداخل مصائر شخصيات الرواية مع الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة مثل الحرب الأهلية اللبنانية والحرب السورية، وحروب صدام العبثية، انزواء الكويت، نهضة دبي، محاولة قبرص للعب دور المرصد الشرقي، وكثير غيرها من الاحداث، وتأثير كل ذلك على منظومة الفساد الكبير في المنطقة.
أبطال الرواية وشخصياتها هم من يملكون مفاتيح الباب الخلفي للعالم، الباب المفضي إلى الجانب الشرير منه، تصف ما يفعلونه هناك، وما يأكلونه ويشربونه، وشكل علاقتهم مع العالم الذي نعرفه ونراه في نشرات الأخبار، نرى السياسيين ورجال المال في غرفهم السرية وقمراتهم المحصّنة، نرى رجال المخابرات وهم يعيشون حياتهم الليلية، ونرى من الداخل كيف تعمل المنظمات الدولية والمراكز البحثية، وكيف يصبح الشيوخ ورجال العلم جزءاً من لعبة الفساد.
تتنقل الرواية بين عوالم بيوت الدعارة وأندية القمار وتهريب المخدرات، الشركات والمصارف وأجهزة الاستخبارات، الكنائس والمساجد والزوايا الصوفية. تنتقل بين قاع الفقر في مدن المنطقة، وذروة الترف والفحش. لا تحاكم أحدًا ولا تبرّأ أحد، لا فرق لديها بين القوّاد والشيخ والأستاذ الجامعي والكاتب، فالجميع يحمل شيطانه وملاكه في داخله.
الرواية مكتوبة بإيقاع سريع، وبلغة رشيقة، حيث تجري الأحداث بسرعة وكثافة، ولا توفر فرصة ولو كلمة واحدة داخل جملة عابرة، لتقول معلومة أو تشير لحدث، وتتوقف اللغة لتلتقط أنفاسها أحيانًا، عبر استغلال الراوي للفرصة والتحدث وحيدًا ليعطي رأيه بما يجري بين الفينة والفينة.
جاءت الرواية في 424 صفحة موزعة على 50 فصلًا، وتسير بخط زمني مستمر، فتبدأ الأحداث في الساعة الخامسة من صباح الأحد 26 آب/أغسطس 1984 وتنتهي في الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة 30 تموز/يوليو 2020.
من الرواية
من فصل: كيف تحوّل غريب الحُصو إلى مايك الشرقي؟
للأماكن، كما للبشر والسلالات، أقدارُها، وظائف مكتوبة في اللوح المحفوظ. لذلك تجري الأشياء حولَها بطريقة تبدو غير منطقيّة أحيانًا. فالقدرُ، ودون أن يضطرّ للإفصاح عن خططه المستقبلية، يدفع بالأماكن كي تحقّق ما يريده هو. وله وحده اختيار الزمن المناسب.
فندق مازا منذورٌ لمهمّةٍ أرادها القدر. وإلا لماذا مات الخواجة المحترم وهو في أوج رضاه؟ ولماذا آلت ملكيّة المكان لرجلٍ كالشيخ قسّام؟ ولماذا لم يتأثر كثيرًا حين نشبت الحرب؟ ولماذا توافَق جميع المتحاربين دونما اتفاق على أنهم بحاجة إلى مكان آمن بين خطوط التماس المتشابكة والمتبدّلة باستمرار؟ ولماذا كان فندق مازا هو هذا المكان بطوابقه العشرة وغرفه المئة والستّين ومطعميه المميّزين، وملهاه الواسع الذي تقام فيه أكثر الحفلات مجونًا ولامبالاة؟ ولماذا لم يصل إليه من الحرب سوى صوتها؟ ولماذا ظلت لتسع سنوات تمر قربه، تؤدي بعض معاركها على بعد أمتار منه، لكنها لا تجتاز الباب أبداً؟!
من اجتاز الباب في ذلك اليوم، كان شابًّا بعمر الفندق، كلاهما تجاوز العشرين بقليل. وكلاهما مرّت به الأقدار والحروب دون أن تهدمه. أفصح القدر أخيرًا عن أول إشارة إلى مشروعه. شابٌّ مرتبك منطفئ. مبنى واثق مشعّ. كان كلاهما بحاجة إلى الآخر، كان كلاهما منذورًا للآخر.
اصطدمت عينا الشيخ قسّام به في اللحظة التي هزّت موظفة الاستقبال رأسها وزمّت شفتيها لتؤكد أنهم لا يحتاجون عمالًا، فأمر أحد مرافقيه: "اذهب وأحضِر لي ذاك الشاب!"
اقرأ/ي أيضًا: