ألترا صوت – فريق التحرير
الرواية عند فواز حداد ليست مجرّد ممارسة أدبية. وإن كانت كذلك فيما مضى، فإنّها الآن تجاوزت ذلك بأشواط كبيرة، وباتت محور حياته، وربّما تستحوذ على حياته كلّها. الروائي السوريّ جعل منها نشاطه الذي لا يتفوّق عليه أي نشاطٍ آخر. لا سيما وأنّها تنسجم انسجامًا تامًّا وطموحاته، بل وتبلورها أيضًأ. ناهيك عن أنّها الأساس الذي يبني عليه تصوّراته نحو البشر، بحيث تبدو تصوّرات روائية بحتة. "أي حدث صغير أو كبير، تتشكّل من جرّائه في ذهني رواية حوله"، يقول في حوارٍ سابق لـ "ألترا صوت".
يكتب فواز حداد سيرة بلادٍ محتلّة أو مخطوفة، تبدو أقرب إلى مصحّة نفسية ضخمة في روايته الجديدة "تفسير اللاشيء"
حديث حدّاد أعلاه عن أحداثٍ كبيرة وصغيرة. ولكن، ماذا بشأن المنعطفات الكبيرة؟ ما سبقها وما تلاها؟ "أعتقد أنّه يصحّ أن يكرّس روائي بضعة سنواتٍ من حياته ليكتب عمّا عشناه من رعب". يقول مؤلّف "موزاييك 39" مؤكّدًا أنّ القضية "قضية ضمير"، قدّم بناءً عليه، وانطلاقًا منه، روايته الأولى "السوريون الأعداء". وأتبعها بروايةٍ أخرى حملت عنوان "الشّاعر وجامع الهوامش"، تلتها أخيرًا رواية جديدة صادرة عن دار "رياض الريس للكتب والنشر" تحت عنوان "تفسير اللا شيء".
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة فواز حداد
كتب فوّاز حداد في "السوريون الأعداء" سيرة بلد تئنّ تحت وطأة مذبحةٍ حدثت لتوّها، أي مجزرة حماة التي وقعت في ثمانينيات القرن الماضي، وشكّلت فيما بعد، حينما حسمها الأسد الأب، عتبة أولى لتغلغله في المجتمعات السوريّة بطريقة مخيفة، وتنفيذ مشروع "القائد الخالد" الذي احتلّ ساحات البلاد بتماثيله، ودخل منهاهجها، وخطب الجمعة في مساجدها كذلك. بينما كتب في "الشاعر وجامع الهوامش" سيرة حياة ثقافية مزيّفة تبدو فيها عبارات كالتنوير مجرّد مظاهر شكلية وخدّاعة تنطوي على جوهرٍ لا يزال عفنًا، تُديره أجهزة الاستخبارات التي تجنّد المثقّفين لتقديم معادلاتٍ ثقافية لسياسيات النظام من جهة، ولتنفيذ عمليات استخباراتية من جهة أخرى.
يُمكن القول إنّ فواز حداد يكتب سيرة بلادٍ محتلّة أو مخطوفة، تبدو أقرب إلى مصحّة نفسية ضخمة في روايته الجديدة التي لا يتوافق عنوانها ومضمونها، بقدر ما يتناقض معه، ذلك أنّ الرواية تُفسّر ما يبدو في مضمونها وكأنّه لا شيء، وبالتالي، أسّس حداد تفسير اللاشيء على ما سبق أن كتبه في روايتيه السابقتين، بأسلوبٍ يُحيل الرواية نتيجة طبيعية لما قرأناه قبلًا. حيث إنّ احتلال البلاد وخطفها أوجد قمعًا موغلًا في العنف لضمان بقائه "السوريون الأعداء"، والبقاء نفسه يستلزم أن تكون اليد العليا في مختلف المرافق للنظام فقط، بما في ذلك الثقافة "الشّاعر وجامع الهوامش".
هكذا سيضعنا صاحب "عزف منفرد على البيانو" أمام صورة صادمة مأخوذة من حال بلادٍ يُقبلُ فيها الناس بكثرة على عيادة طبيب نفسيّ بلغت شهرته الحدود بعد معالجته لحالاتٍ مرضية مستعصية؛ مرضى قادمون من أقبية أجهزة الأمن وفروعه المتعدّدة: فلسطين، الجوية، وأمكنةٍ أخرى معروفة ومجهولة، بعد أن زرعت في "ضيوفها" هلوساتٍ مُخيفة، وكوابيس مكرّرة، كأن يرى المريض نفسه مُعلّقًا من قدميه إلى السقف، أو مربوطًا إلى الكرسي الكهربائي، أو يُشاهد الجنود وهم يقتلعون أظافره، ويهدّدنه بفصل رأسه عن جسده.
في "تفسير اللا شيء"، يؤرّخ فواز حداد للظلام الذي عاشته سوريا طوال ما يقارب نصف قرن، ويُشرّح الدولة الشمولية الرثّة التي أنتجتها
سنرى أيضًا مرضى من طرازٍ مختلف: شبيّحة يعانون من فقدان المخّ، عالجهم بأن أقنعهم أنّ لا جدوى منه طالما أنّه يوقظ الضمير. بالإضافة إلى نساء ورجال وشبّان وأطفال جرى اغتصابهم في المداهمات، أو في الأقبية، ولكنّ الطبيب سوف يثبت لهم العكس تمامًا، أي عكس ما عاشوه، فهم "لم يغتصبوا، بل ولم يعتقلوا، وما مسألة اغتصابهم إلا مراودة النفس لارتكاب فاحشة غير مسؤولين عنها، ولا يحاسبون عليها".
اقرأ/ي أيضًا: فواز حداد وممدوح عزام.. عن الروائي والرواية في الحرب
يُضيف فواز حداد إذًا رواية جديدة لمشروعه الروائي القائم على ما يمليه عليه ضميره، والذي يؤرّخ "الظلام الذي عاشته البلد طوال ما يقارب نصف قرن"، ويُشرّح كذلك "الدولة الشمولية الرثّة التي أنتجتها". إنّها رواية عن "العمر الضائع، لئلا نكرّر نحن السوريين مأساتنا"، كما ورد في حوارٍ سابق لنا مع حدّاد أكّد فيه أنّ روايته هذه هي ختام رواياته عمّا عاشته البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: