يمثّل البحث في ظاهرة العنف عند الكائن البشري تيمة مركزية في تاريخ الرواية العالمية، من هذه النافذة يمكن أن نقرأ معظم المنجز الروائي من رواية دون كيشوت لميغيل دي سيرفانتس إلى اليوم، فكل رواية هي مقاربة للعنف أو مقاربة للعالم به من خلال لازمة الصراع لإنتاج الحبكة، لكن المقاربات تتفاوت وتختلف من نص إلى آخر حسب التيار الذي تنتمي إليه الرواية أو النوع الذي تنضوي تحته؛ رواية بوليسية، رواية جريمة، رواية سوداء، رواية خيال علمي، رواية فنطازيا، ورواية الحرب ورواية ما بعد الحرب، ورواية السجون.
يساهم السرد التاريخي في إضاءة جوانب من شخصيات رواية "طير الليل"، ويقسّط الراوي المعلومات ويشتتها حتى يُبقي التشويق على أشده
غير أنه من ضمن هذه الأعمال من ارتقى فيها العنف إلى مستوى الفكرة الرئيسية نفسها، ورواية قايين لجوزيه ساراماجو ورواية البرتقالة الآلية لأنتونى بيرجس من أشهر تلك الروايات الحديثة، واحدة بحثت في أصل العنف عند الإنسان، والأخرى في أن العنف مولد للعنف وأن قمع العنف في الذات البشرية مدمر لإنسان نفسه. ضمن هذه المقاربات يمكن أن نموقع رواية "طير الليل" (منشورات المتوسط، 2019) للروائي الجزائري الإيطالي عمارة لخوص.
الرواية الأطروحة العنف أصل البدايات
ينطلق الكاتب منذ البداية بمقولة لحنة آرنت تربط العنف ببدايات كل شيء وبالثورات تحديدًا في مفهومها الفلسفي العام، من حيث هي ضرورة لصيرورة الكائن البشري: "إن أصل مشكلة البداية بظاهرة الثورة هي صلة واضحة. وكون مثل هذه البداية لا بد أن تكون متصلة اتصالًا وثيقًا بالعنف، إنما هو أمر تتكفّل به البدايات الأسطورية لتاريخنا، كما يرويها التاريخ التوراتي والكلاسيكي مثل: قابيل قتل هابيل ورومولوس ذبح ريموس. إن العنف كان البداية. وعلى هذه الشاكلة، فما من بداية يمكن إحداثها دون استخدام العنف".
اقرأ/ي أيضًا: أحمد عبد الحسين.. مكان بلا زمن
يبدو أن عمارة لخوص يضع هذه الأطروحة أمامه وهو يحاول أن يدلل عليها من خلال الرواية فيدفع بالنص نحو الرواية الأطروحة، الرواية التي تدافع عن فكرة معينة وردت في التصدير. وهي حتمية العنف لإحداث بداية، والبداية هنا هي دولة ما بعد الاستقلال.
رواية التحري داخل التاريخ الحي
تعتمد الرواية البوليسية التقليدية ورواية التحري أسلوب صار معلومًا، الانطلاق من جثة والبحث لها عن جانٍ، هكذا ينطلق الروائي من جثة ميلود صبري المجاهد السابق في ثورة التّحرير الذي يلقب بـ"طير الليل". وُجد المجاهد مذبوحًا في إحدى الشقق المشبوهة. وليخلق الروائي ذلك الإرباك والتوتر المطلوب في الرواية ذات الحبكة البوليسية نزّل الحادثة صبيحة عيد الاستقلال. ليطرح السؤال من الجاني؟ ولماذا اليوم بالذات؟
غير أن رحلة التقصي والبحث في رواية طير الليل لعمارة لخوص بدت رحلة مخصوصة لأن الحادثة فتحت شرايين الجزائر العميقة عبر ملاحقة خيوط الجريمة في تاريخ الجزائر الحديث ما قبل الاستقلال. فجاءت الرواية في أسلوب تناوبي بين الحاضر والماضي؛ فصل يتابع أحداث التحقيق في عملية القتل، يقوم بالتحقيق مفتشان من فرقة مكافحة الإرهاب؛ العقيد كريم السلطاني والعميد بلقاسمي، وفصل يكشف عبره الراوي العليم بعض ملامح الشخصيات التي يتوجه نحوها البحث بالاتهام أو بالعلاقة مع المتهمين وهي شخصيات لها وزنها في تاريخ الثورة الجزائرية: ميلود صبري "طير الليل"، وادريس طالبي "الصقر"، وعباس بادي "البلاّرج"، وزهرة مصباح "دولوروس".
يساهم السرد التاريخي كل مرة في إضاءة جوانب من الشخصيات، ويقسّط الراوي المعلومات ويشتتها حتى يُبقي على التشويق الذي يتطلبه النوع الأدبي.
يكشف السرد أن بشاعة عملية القتل التي اعترضتنا في بداية الرواية عبر جثة طير الليل المذبوحة وجدع أنفها، وتمرغها في البراز ليس إلا مشهدًا بسيطًا أمام الفظاعات التي شهدها التاريخ الجزائري ما قبل الاستقلال وبعده، عبر من أحاطوا أنفسهم بقداسة كلمة المجاهدين. فتكشف الرواية عن سقوط الجزائر قبل أن تصل إلى استقلالها في أيدي جماعة انتهازية سعت لتصفية بعضها بخلق الإشاعات والخيانات والاغتيالات، لكي تستولي على الجزائر عبر شرعية الثورة، وتحول البلد بعد الاستقلال إلى بلد مكبّل بالكامل وفي قبضة جماعة استبدادية.
تعتبر "طير الليل" من أجرأ الروايات التي تناولت ثورة التحرير الجزائرية والمسكوت عنه فيها بعد رواية اللاز للروائي الطاهر وطار
تعتبر هذه الرواية من أجرأ الروايات التي تناولت ثورة التحرير الجزائرية والمسكوت عنه فيها بعد رواية اللاز للروائي الطاهر وطار والزمن النمرود لحبيب السائح. وهي رواية الخيانات المتعددة والمتناسلة في السياسية الجزائرية التي أنتجت اللحظة السياسية المائعة التي يعيشها اليوم. بلد الثروات الكثيرة وشعبها الفقير والمدقع أحيانًا.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | الروائية عالية ممدوح: ما زلت أتلقى الدروس
لتقديم هذا الوجه الآخر للثورة الجزائرية وللمافيا التي قرصنت الثورة والاستقلال، احتاج الروائي عبر عمليات التحقيق وأسلوب التداعي الحر للمحققين إلى إعادة طرح أسئلة المفاهيم الكبرى، كالسؤال عن ماهية الإرهاب ومن هو المناضل ومن هو الخائن و"الحركي" فعلًا؟
هكذا زعزع الروائي يقينيات كانت ثابتة عند الجزائري باعتبار أن تلك رواية من جملة روايات أخرى مغيبة كانت وراء تصفية الكثير من المناضلين بتهمة الخيانة فقط، لأن مطلقيها أرادوا أن يتخلصوا منهم في القيادة.
التمثيل بالجثث والدلالة الرمزية لتاريخ العنف
يعتبر التمثيل بالجسد ركيزة أساسية في أدب الجريمة السياسية، لأن القتل عليه أن يحمل رسالة رمزية لمن سيعثر على القتيل، ولذلك تتحول الجثة إلى مسرح لعمل سياسي، فجدع أرنبة الأنف تشير إلى الخيانة وهي التي تنزل من منسوب العملية الإرهابية التي ترشحها إليها عملية الذبح التي تعرض لها ميلود صبري، وإن كان الذبح أيضًا له أصل في ثورة التحرير. وقطع أرنبة الأنف يعتبر تقليدًا في صور جثث الضحايا الذين يقع تصفيتهم بتهم الخيانة في تاريخ ثورة التحرير، ومن هنا جاءت عبارة "النيف" بين المجتمع الجزائري والتي يثبّتها الروائي في نصه عبر الراوي لغير العارفين بها.
يقول الراوي: "أما الذبح، وخصوصًا قطع الأنف، فهو تقليد سنته جبهة التحرير خلال الثورة لمعاقبة الخونة والمخالفين لأوامرها". وتوقف عند نقطة أساسية: "بالنسبة إلى الجزائري، النيف، أي الأنف هو رمز العفة والشرف، من لا يستطيع أن يشم رائحة العفن في بيته وسط عرضه، فليس عنده أنف، وهو عديم الشرف". أما توقيت عملية الجريمة، عيد الاستقلال، فهو مؤشر آخر على أن للجريمة علاقة بالثأر القديم.
مصاصو الدماء الذين تمثلهم شخصية "طير الليل" لم يتوقفوا عن مص دماء الجزائريين تحت كلمة حق "المحررين"
إن جرأة هذه الرواية في طرح أسئلة خطيرة كتلك المتعلقة بقتل العُزّل من المدنيين الفرنسيين في أرض مستعمرة فرنسيًا، من ناحية، وكشف كيفية انتقاء وقبول الفدائيين انتقاء دمويًا، حيث لا يقبل الواحد منهم إلا بعد أن يقتل فرنسيًا. كما يستند الروائي على تعدد الأصوات ليصغي إلى رؤى غريبة للإرهاب وفتاوي عجيبة كالإرهاب المقبول والإرهاب المرفوض الذي تحدثت عنه الفدائية القديمة زهرة.
رواية سوداء عن الفساد السياسي
الرواية السوداء ورواية الجريمة على عكس الرواية البوليسية هي غير معنية بالوصول إلى الجاني، لأن غايتها فضح المجتمع الذي أنتج الجريمة وجعلها متكررة، فلا معنى للوصول إلى الجناة إذا كانت الرواية تتهم المجتمع كله بإنتاج الجريمة أو العنف الذي ينتجها. ولعل في كنية البطل "طير الليل" إشارة واضحة لهذا السواد الذي يعرفه المشهد السياسي من لحظة ما قبل الاستقلال إلى اليوم مما دفع الشعب الجزائري إلى الخروج في انتفاضة سماها حراكًا بعد أن قايضوه طويلًا بتلك المعادلة البشعة: الأمن مقابل الفساد. فمصاصو الدماء الذين يمثلهم طير الليل لم يتوقفوا عن مص دماء الجزائريين تحت كلمة حق "المحررين".
اقرأ/ي أيضًا: عدنية شبلي في روايتها "تفصيل ثانوي".. الحكاية من هوامشها
ليس التاريخ السري للجزائر هو المقصود في رواية عمارة لخوص بقدر ما هو حاضرها الميؤوس منه والذي استنفذ كل فرصه كما قال هو نفسه في النهوض من بركة الدم التي سقط فيها منذ حرب التحرير. ولكن المراحل المظلمة التي عاشتها الجزائر، بما فيها العشرية السوداء، كانت سليلة الظلام المنسي في التاريخ الجزائري ما قبل التحرر وبرك الدم التي قام عليها نظام ما بعد فرنسا.
يتفرع البرنامج السردي القائم على التحقيق ليشمل المقربين من القتيل، ولكنه يصل الفنانين والمثقفين كالرسام رشيد قادري صاحب سلسلة سيدي خويا الباندي، الذي وجده قد رسم الشخصية البطلة المستوحاة من شخصية القتيل دون أنف يوم جدع أنف طير الليل.
ويذكّر السرد بضحايا الإرهاب في التسعينات مثل المسرحي عبد القادر علولة، من خلال ذرائع سردية صغيرة كتنقل الشخصيات في الأماكن التي كان يرتادها الضحايا فتفتح سيرهم.
تحاول الرواية أن تحلل خطاب الثورة باعتباره خطابًا خاطئًا أدى الى تراكمات من الأخطاء، أدت بدورها إلى الإجهاز على فكرة الثورة وتحول الوضع إلى انقلاب على الشعب وشهدائه الحقيقيين.
فبن بلة كان في نظر البعض منهم مخطئًا عندما قال في تصريحه الشهير: نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب. وأقصى كل المكونات الأخرى كالشاوية والقبائل والطوارق والأوروبيين. ولكن السؤال الخطير الذي طرح بين الفدائيين: هل سيمكث جيش التحرير الوطني في الثكنة بتحقيق الاستقلال؟ وهل سيبقى حزب جبهة التحرير الوطني الحزب الوحيد الأوحد؟
تحاول رواية "طير الليل" أن تحلل خطاب الثورة باعتباره خطابًا خاطئًا أدى الى تراكمات من الأخطاء، أدت بدورها إلى الإجهاز على فكرة الثورة
ورغم تحذير البعض من السقوط في فخ الدكتاتورية الا أن البقية لم تقتنع وظلت ترى الجيش والحزب أساسيان في دولة ما بعد الاستقلال. ومن هذا الاعتقاد جاء الفساد.
اقرأ/ي أيضًا: أثر الترجمة وانعدامه
رواية عمارة لخوص تزيح كل الستائر المسدلة على تاريخ الشر في الجزائر، لتبدو الفضيحة جلية وبالأسماء. نص يؤرخ بطريقة تخييلية مستندة على الوثيقة لتاريخ إحراق الثورة وتشويه وجه الجزائر واغتصابها.
صحيح أن الرواية انتهت بتصفية وقتل الخائن حلال كما تروج الرواية عبر خطابها، فأجهزت زهرة على الخائن زوجًا ورفيقًا سياسيًا لتعلي من شأن العنف ومن مقولة "الإرهاب المقبول والإرهاب غير المقبول".
تشير نهاية الرواية إلى أن الجزائر ستعيش تلك الليلة بلا طير الليل، ولكن هل تصفية خفاش كافية ونحن نعلم أن الخفافيش لا تعيش فرادى؟
إن هذه القتامة التي رسمها عمارة لخوص لتسلسل العمل السياسي بالجزائر وتفشي الفساد وتناسله إلى اليوم كسرها بشخصيات نورانية، منها إدريس المناضل الحقوقي الشريف، والعقيد سلطاني المفتش غير المرتشي، وزهرة الفدائية الكبيرة والمغدورة دائمًا، وعدد آخر من الشرفاء الذين يمثلون صمود الجزائر وأملها على ضعفهم في ظل بقاء خفافيش الظلام تتوالد في الجحور، لتدبر كل مرة مؤامرة جديدة ضد الجزائر وشعبها.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "الجزائر عاصمة الثورة.. من فانون إلى الفهود السوداء": وثيقة هويّة