03-يوليو-2023
رواية مايكيلا.. نصفُ قبرٍ وربعُ ذاكرة

رواية مايكيلا: نصفُ قبرٍ وربعُ ذاكرة

الصحراء عالم مختلف، فيها العديد من الثيّمات التي تستوجب الاستكشاف والتنقيب، وهذا في جغرافيتها وروحانيتها وطابعها الأسطوري أيضًا، لأنّ الأسطورة في كثير من الأحيان تقابل الصحراء وتتجسّد فيها، وبشكل مخالف أيضًا يتجسّد فيها الموت لأنّ رمالها اللامنتهية تتحرّك وتجعل من يلجها تائهًا ومنسيًّا.

رواية "مايكيلا، نصفُ قبرٍ وربعُ ذاكرة" (دار ميم 2021) للروائي الجزائري سليم بن اعمارة، عمل جميل وإبداعي يتراوح بين السرد واللغة المعبّقة بألوان وروائح بالصحراء، وقصة من الواقع تمّ الولوج إليها سرديًا بسِمة التخييل، إذ يأخذنا الراوي في رحلة الرّمل الفلات، أين يضيع الإنسان فيصير يناجي الحياة ولكنه يتبصّر الأمور.

ومن الغريب أنّ الرواية لم تحظ بمتابعة إعلامية ونقدية، رغم أنها تستذكر معنا قصة السياح الأجانب الذين تمّ اختطافهم من جماعات مسلحة بصحراء الجزائر سنة 2003.

تستعيد رواية "مايكيلا، نصفُ قبرٍ وربعُ ذاكرة" لسليم بن اعمارة قصة السياح الأجانب الذين تمّ اختطافهم من جماعات مسلحة بصحراء الجزائر سنة 2003

سيحيلنا الراوي ذياب على شريط حياته، بعدما خرج من كوخه بمدينة الوادي كي يقصد عملًا آخر، لكنّه لسوء حظّه سيتورّط مع مجموعة تهريب دون أن يعرف حتى تقصده المشاكل تباعًا، سيكتشف هذا الشاب الحياة بصورتها القبيحة وكيف استغلّته هذه العصابة كي تصل لمرادها، لكنّه يثير القضية من جانب أنّ خروجه من كوخه في منطقة "تندلة" تحديدًا كان انتصارًا له، ولم يعد يهمّه حجم المآسي التي تواجهه في الحياة وهذا العمل الجديد، لأنّه قضى حياته داخل كوخه هذا الذي كان يقضّ مضجعه، كما يصرّح لنا "كان كوخي أكبر سجن عرفته"، وسيقيم الراوي فكرة مهمة هي الأخرى حينما يتماهى مع عمله الجديد من منظور أنّه كان في كوخ يعيش روتينًا سيّئًا إذ يقول: "ربّما ذلك الفراغ الذي عمّر فينا هو ما يجعلنا نشبّث بأي قشة لنفجّر فيها كل آلامنا".

يعطينا الفراغ تلك الطاقة السلبية للحياة، ويجعلنا نجنح للجريمة والضياع، ومن هنا تأتّت أزمة ذياب، والتي إن لم يتم الاشتغال عليها مطولًا في الرواية، إلاّ أنّها تشكّل مسارًا أساسيًا في تغيّر حياته وجنوحه لمهربٍ مهلك! وجد نفسه فيه محاطًا بالندم وتأنيب الضمير والموت في كلّ لحظة.

ذياب، أو الذيب، صار يعيش حياتين من خلال المهمة التي أوكلته بها العصابة، حيث سيعي بالمأزق الذي صيّروه له، فنقرأ على لسانه الخيبة واليأس: "كم هو منفر هذا الفراغ الذي أتوه فيه وأنا أرتدي غير حقيقتي! أتجرّد منها لألبس حلّة إنسان آخر، حلّة الذيب الجديدة"، سيشكّل هذا العمل الخطير الذي يقوم به صورة عن اغتراب ذاته وتحوّلها للنفاق والاحتقار الذاتي، إذ إنّ ذياب يعي أن ما يفعله سيكون وبالًا على أناس بسطاء ورغمًا عنه سيكون سببًا في مقتل العديد منهم. وفي تمثيل رمزية القبح عند الإنسان سيقول ذياب: "نحن نتغنّى بإدراك كل الأمور وجميعنا يُنافق بطهارته، لكننا دائما ما نقابل المرآة كل صباح نتفحّص كلّ قبح ظاهر".

سردية هذه الرواية تعطي منظورًا مختلفا في تفعيل تفكير القارئ، لأنّها لن تكتفي بجمالية السرد وعبق رحلة الصحراء، لكنّها تعطي الصورة عن هشاشة الحياة، وكيف أنّها ترغمك على خوض آثار صعبة يتخلّلها الفشل واليأس، ونحن في خضم التلذّذ بمسرّاتها نسقط خاسرين، فكم "هو مؤلم أن تجذبك مباهج الحياة لتشرب الخسارة، بعدما جذبتك أمراحها وخُدعت في هالة تصنع بها أشخاصًا لتجد نفسك تغرق بينهم، كم هو مؤلم أن تبتاع أشياء ليست على مقاسك، فإما تكون قد أهنت نفسك بتفريط، أو أنك لم تفلح حتى في تقييم نفسك".

عندما تتطوّر الأحداث ويتوه ذياب مع رفقة في الصحراء سيلاقي مصيرًا مختلفًا، يتعرّف فيه على الصحراء حقيقة، فقد كان مكانًا لم ير الصحراء فيه بهذه "الشساعة والقسوة"، تحتجزه عصابة مع سواح ألمان، وهنا سندخل في استرجاع الذاكرة وقصّ حكاية مايكيلا سبيستر، تلك السائحة الألمانية التي ماتت سنة 2003 بسبب ضربة شمس بعد تيهانها في الصحراء.

في هذا الفصل الثاني من الرواية سنشهد تركيبًا روائيًا سرديًا محكمًا، حيث نتابع ذياب وهو يقصّ كيف هربوا من الجماعة وتاهوا في الصحراء، أين نجد "العطش والتوهان هما وباءا هذا المكان"، هكذا يرى ذياب في مايكيلا الحياة ويساعدها في كلّ المسار الذي اتّبعاه من لحظة هروبهم للقاء الحتف، سيجعلنا الروائي نتسرب مع شخصية ذياب الراوي، لكن في المحطة الأخيرة يتحوّل السارد في لعبة ذكية منه لشخص آخر، وفي حين أنّنا نسمع ذياب نعي أخيرًا كيف تلاعب بنا السرد وصوّر لنا صورة غير التي وقعت، وأجد هذا الاشتغال مرهونًا بما اقتضته الأحداث وهو نقطة جمالية فريدة في تسلسل الأحداث وتتبّع السرد.

مع هذه الرواية، نكتشف الصحراء في خطورتها، حيث يشكّل التيه والعطش معالمها الأساسية، حتى أنّ الجثث لا يمكن أن نجدها عندما تتحرّك الرمال وتأخذ بالقبور من مكان لآخر، وهنا نلمس الصورة التي نقرأها في العنوان الفرعي للرواية "نصف قبر"، لأنّ قبر مايكيلا لم يتم إيجاده لحد اليوم وقد بقيت في صورة تلك السائحة الألمانية أم البنتين التي توفيّت في صحراء الجزائر، وقد أعاد سليم بن اعمارة إحياء ذاكرتها في هذه الرواية الجميلة.

يقول الراوي عن الصحراء: "أدركتُ أنّ الصحراء خالية من كل حياة، وفي نفس الوقت كلّ ما عليها هو الحياة كلّه". وفي تناقض مفهوم الصحراء هذا نتأمّل ونتعجّب!