في الكتاب الأول من رواية "متاهة الأوهام" (هاشيت أنطوان – نوفل، 2023)، للروائي المغربي محمد سعيد احجيوج، المكتوب بضمير المخاطب – واستخدام مصطلح "الكتاب" بدلًا من "الفصل" له دلالاته هنا – نقرأ حكاية كاتب تتبخر أحلامه بعد ولادة زوجته لطفلتهما التي سيتولى رعايتها خلال غياب زوجته، التي اضطرت للبحث عن عمل بعدما انقطعت عنه منذ مدة كونها تملك شهادة علمية تمكنها من الحصول على فرصة، على العكس من زوجها الذي أصبح عاطلًا بعد أن قررت الشركة التي يشتغل فيها التخلص من بضعة موظفين كان واحدًا منهم.
وبعد دقائق من الاندماج مع بطلةٍ مجهولة من أبطال الرواية/ المتاهة اتصلت بالكاتب الذي تعرف تفاصيل حياته بدقة، يأتي ضمير المتكلم بناصية الصفحة ليجعلنا في حيرة من أمرنا تجاه أسلوب السرد: "حين انتفضتُ من صوت اهتزاز الهاتف المباغت على طاولة المطبخ، كنتُ أعقّم الرضاعة وأسخّن الماء..". وهكذا يضعنا احجيوج تحت ضغطٍ رهيب. لكنه يعلم ما يفعل، فهو يمارس ذلك باستحضاره المتلقي ليقرأ معه العمل بنفَسٍ مشترك. فبعدما عرفنا أنّ هناك مولودة جديدة يرعاها أبوها العاطل عن العمل، يختلجنا شك بأن هناك طفلًا آخر سبقها للحياة.
لقد انهمكنا مع الشخوص والأمكنة والأحداث المضطربة إلى درجة لم نعد نعرف فيها ما إذا كنا أمام رواية مألوفة أم دراسة نقدية
وعندما نقرأ: "لم نعرف مَن يتكلّم ومَن زوجة مَن ومَن ابنة مَن"، ندرك أنّ الكاتب إمّا تقصّد الإرباك ليضمن تركيز قارئه كونه يكتب متاهة تلاطمت فيها أمواج السّرد، وإمّا أنّه أراد أن يُهيئ القراء لتقبّل رواية جديدة تقتلع نفسها من مزرعة الأدب. وإلا ما الداعي لبعث بطل رضيع اسمه نجيب، مع توظيف الروائي نجيب محفوظ ونتاجاته ونوبل وما تبعها من محَنٍ طالته آنذاك؟
ثم نسمع ضمير المخاطب مرةً أخرى، وكأننا نحن – معشر التائهين – مَن نجاري هذه الغواية لإبلاغ الراوي بما يجب أن يقوله. لقد انهمكنا مع الشخوص والأمكنة والأحداث المضطربة إلى درجة لم نعد نعرف فيها ما إذا كنا أمام رواية مألوفة يمكننا أن نمسك فيها خط السرد ليتبيّن لنا الرشد من الغي، أو دراسة نقدية أصدرت أحكامًا على نصوص ما فسّهلت علينا تتبع الأثر فيها.
يُراقبنا النّص بأعينه الأمامية والخلفية، يصيّرنا في متعة وعياء معًا عند الانتقال من صفحة إلى صفحة، ما يجعل من الرواية مغامرة سردية تحثُّ الشغوف على قراءة أعمال احجيوج السابقة وغير المنفصلة عن هذه الرواية: "انفتح الباب فقفزتَ وكاد قلبك يغادر القفص الصدري". هل هي فوضى ينشرها الكاتب أينما حل وارتحل كما أشار ضابط الشرطة؟ وما علاقة الضابط بالأدب، أو ما الذي دفعه ليقول: "عظمة الرواية تأتي من تناغم شكلها الخارجي مع مضمونها الداخلي".
ولأنّ الجوائز الأدبية أصبحت مقياسًا لتقييم جودة النص لدى طائفة واسعة من القراء، أضحت تلك الجوائز مجلبة لحمّى لا يمكن للنص الحديث التخلص منها. الأحرى أنها عدوى تنتقل من رواية متوجة إلى أخرى في مرحلة البناء، ما يجعل النّص ضيق الأفق مصلوبًا على أسلوب التقليد. ولعلّ هذا ما جعل احجيوج ينتهج شكلًا سرديًا مبتدعًا. والحقّ أنّ الكتابة دومًا بحاجة إلى تجديد، فما جدوى الرواية إن ظلّت تسجل الواقع كما هو؟ يقول الراوي: "كنت تشتهي أن تصل روايتك إلى قوائم تلك الجائزة التّي يقطّع بسببها الكُتّاب بعضهم أوصال بعضٍ على عتبات ناشريهم يتوسّلون ترشيح رواياتهم".
نستنتج من هذه الرواية أن صاحبها الذي طرح عبرها العديد من الأسئلة المهمة، لا يفعل ذلك من أجل البحث عن إجابة لها، وإنما من أجل فكِّ القيود عن الفكر العربي لإنتاج المعرفة اللائقة بالهويّة. إنّه يدعو إلى نهضة أدبية عربية منتصرة لتاريخها ولكلمتها الخاصة، ولعلّه يمهّد الطريق لنفض الغبار عن قضية اختطاف المعارض المغربي المهدي بن بركة، ويتكهّن منع أخطبوط الرقيب، أو هكذا توهّم البطل الظّل المتحرك في المتاهة.
إنّ من وظائف الأدب الإمتاع والتطهير، ويبدو أنّ الثانية أكثر حضورًا من الأولى في هذه الرواية، لأنّ المتتبع للسرد لا يكاد يستأنس بالأحداث وحوار الشخصيات حتّى يقتحم خياله مشهد لا يمت للفضاء بصِلة، إزعاج إن لم نقل استفزاز. هُنا ننبّه إلى وجوب قراءة النّص كما هو، بل الاجتهاد في نقده وتبيان مكامن القوة والضعف فيه بالكتابة والنقاش.
لقد وجدتُ مستراحًا في العبارة نفسها التّي أنهى بها الروائي متاهته بعد أن توهّم أنّه سيختنق بما كتب، وهي الجملة التي افتتح بها روايته: "الآن سأرفع القلم. لا مزيد. رُفعت الأقلام وجفّت الصحف".