في روايته الأخيرة التي حملت عنوان "1970" (دار الثقافة الجديدة، 2019)، يعود صنع الله إبراهيم إلى الزمن الناصري مجددًا، ولكن هذه المرة إلى الخاتمة المأساوية التي تمثلت برحيل جمال عبد الناصر في ذلك العام. والواقع أن هذه العودة تجدد السؤال القديم المشوب بالاستهجان عن علاقة الشيوعيين المصريين بعبد الناصر وعهده. لقد قضوا سنوات صعبة في الزنازين، تعرفوا فيها على فنون "الرياضة العنيفة" التي جربتها فيهم "الأجهزة" ذائعة الصيت، وخرجوا بعلامات جسدية ونفسية لا تمحى، بل إن بعضهم فارق الحياة هناك (شهدي عطية مثلًا). وخارج السجن عانوا من القمع والفصل من الوظائف والمنع من النشر.. ورغم كل ذلك يصر كثير من مثقفيهم على تطويب ذلك الزمن فردوسًا مفقودًا!
مع أن صنع الله إبراهيم لا يتحدث في "1970" عن فردوس، ومع أنه يشير إلى العديد من العيوب والنواقص، فإن الرواية برمتها تأتي مغلفةً بالحنين
ومع أن صنع الله إبراهيم لا يتحدث في "1970" عن فردوس، ومع أنه يشير إلى العديد من العيوب والنواقص، فإن الرواية برمتها تأتي مغلفةً بالحنين، بل إن الحنين يبدو الدافع الوحيد وراء العمل الذي لم يأت بجديد، لا في نقد التجربة الناصرية ولا في الدفاع عنها. حتى الجملة الختامية، التي رأت فيها قراءات صحفية عديدة تتويجًا لمحاكمة عبد الناصر، كانت في الحقيقة مبللة بالدموع: "خذلت نفسك وخذلتنا.. ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها.. إلى حين!".
اقرأ/ي أيضًا: رواية "الحياة والموت في بحر ملوّن".. سقطة أدبية وتقرير جيد
في حوار صحفي (جريدة العرب 11/2/2020) يقدم إبراهيم ما يصلح لأن يكون تفسيرًا، إذ يتحدث عن القيم الاجتماعية التي رسختها فترتا الخمسينات والستينات من القرن الماضي، من "ازدهار التصنيع والتنمية الاقتصادية المعتمدة على الذات، والتحرر من تبعية الخارج، وإلغاء الفروق الطبقية وإعادة توزيع الثروة.. وتلك السياسات كانت جديدة على المصريين، ونقلة لأفكار الشيوعيين إلى أرض الواقع".
يستخدم الكاتب أسلوب اليوميات، فيختار أيامًا من العام 1970 ويسرد وقائعها، تلك الوقائع التي كان عبد الناصر بطلها أو شاهدًا عليها، والضمير المستخدم في السرد هو ضمير المخاطب، أنت، وأنت هنا هو الزعيم الراحل: "3 يناير: لم تنم تلك الليلة وأنت تتابع أخبار القوة.. فقد نشطت حرب الاستنزاف التي أردت بها إرهاق العدو وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بأفراده ومعداته، ورفع الروح المعنوية والقدرة القتالية في الجيش المصري، بعد الهزيمة الشنعاء في سنة 67". و"29 مايو: كنت قد استمعت إلى حديث سجلته المخابرات وجرى في منزل لطفي الخولي أثناء استقباله لنوال محلاوي سكرتيرة هيكل وزوجها.. وتطرق حديثهم إلى السياسة فوصفتك زوجه لطفي بالدكتاتور، وقال لطفي إن الطريق الوحيد لتغيير الأمور هو عبر تنظيم يفرضه. انتابك الغضب لأن لطفي الخولي نفسه هو من أطلق عليك لقب المناضل المعلم. فأمرت بالقبض على الأربعة".
وأحيانًا تكون هذه اليوميات منطلقًا لاستعادة أحداث جرت قبل العام 70: "16 مايو: هذا هو اليوم من مايو 1967 الذي ارتكبت فيه أول خطأ في حساباتك عندما طلبت سحب قوات الطوارئ الدولية من مواقعها على الحدود في سيناء وفي شرم الشيخ ومضيق تيران".
في رواية "1970"، يستخدم الكاتب أسلوب اليوميات، فيختار أيامًا من العام 1970 ويسرد وقائعها، تلك الوقائع التي كان عبد الناصر بطلها أو شاهدًا عليها
وهكذا يمضي الراوي (الذي يبدو متطابقًا تمامًا مع الكاتب نفسه) مذكرًا طيف الزعيم والقراء بأحداث ووقائع يعرفها الجميع، وأشبعها المؤرخون والصحفيون والكتاب السياسيون سردًا وتقليبًا وتحليلًا، ما يطرح تساؤلًا مشروعًا: لماذا العودة إلى هناك إذًا؟!
اقرأ/ي أيضًا: "اختطاف البابا".. الرفض بأمر صنع الله إبراهيم
وهل الرواية، أي رواية، مطالبة بإضافة معلومات جديدة والإضاءة على وقائع مجهولة؟ الجواب عادة هو لا، ولكن ماذا لو كنا أمام رواية هذا هو متنها وهذا هو شاغلها الوحيد؟
لقد احتل التخييل هامشًا ضئيلًا للغاية في الرواية، إذ اقتصر على ملء فراغات صغيرة: اشتياق عبد الناصر لأسرته، إحساسه بالألم وهو في خضم أزمة صحية، شعوره نحو عبد الحكيم عامر، بعض تداعيات الأفكار عن البدايات والأم وحرب فلسطين.. غير أن هذا ظل أقل بكثير من أن يعطي الرواية ذاتيتها الفنية، ومن أن ينتشلها من سيل الوقائعي والتوثيقي.
وكذلك فقد عجز التخييل عن إضافة زاوية رؤية جديدة، أو اجتراح تفسير مختلف لبعض الوقائع الأساسية. فمثلًا حاول الراوي الدخول إلى عقل عبد الناصر وهو يفكر في اختيار خليفة له، وهو ما انتهى باختيار السادات كما نعلم، وفي سياق إجابة عبد الناصر المتخيلة عن سؤال: لماذا السادات؟ فإننا نقف أمام المبررات والمسوغات التي سبق لكثير من الكتاب والصحفيين والسياسيين أن ساقوها!
ليس في الرواية ما يمكننا وسمه بـ"شخصيات روائية"، فجميع القادة والمسؤولين والمرؤوسين والخصوم.. حضروا فقط من خلال تصريحاتهم وخطبهم وأقوالهم المدونة في كتب التاريخ والمذكرات السياسية، وحتى عبد الناصر، الذي هو محور الرواية وشاغل كامل مساحتها، فهو بعيد عن أن يكون شخصية روائية، إذ لم تعمق الرواية فهمنا لدوافعه وهواجسه وأحلامه، ولم تبلور له بعدًا إنسانيًا غير مألوف وغير ملموس في صورته العامة المرسخة.
بدا الرواي في رواية "1970" مشغولًا بجرد الحوادث على مسامع الزعيم، أكثر من انشغاله بطرح الأسئلة عليه، أو مواجهته بلائحة اتهام محددة
هنا أيضًا يلجأ صنع الله إبراهيم إلى تقنية دمج العناوين والمانشيتات الصحفية في السرد الروائي. يبدأ كل يوم، من الأيام المختارة، بجملة من المانشيتات والعناوين من الصحف المصرية والعربية والعالمية، وهو ما من شأنه إعطاء صورة بانورامية عن الفترة التي تشكل إطار الرواية، وكذلك صنع مفارقة ذات دلالة بين ما يقوله عبد الناصر وموظفوه وبين ما يجري في الواقع فعلًا. ولكن هذه التقنية التي سبق للكاتب استخدامها، والتي أعطت رواية "ذات" سمة التجربة الفنية الجديدة والخاصة، هذه التقنية لم تفعل شيئًا في "1970" سوى تثقيل الوثائقي والتسجيلي وتقليص حصة الفني، حتى كادت الرواية أن تتحول إلى كتاب صحفي عنوانه الأساسي: "حدث في مثل هذا اليوم".
اقرأ/ي أيضًا: الطنطورية باكية في ذكرى ميلاد السيدة
ولقد أشار أكثر من عنوان صحفي إلى أن إبراهيم يُجري محاكمة لعبد الناصر، وأنه قدم مقاربة روائية خاصة لموضوع الدكتاتورية، وواقع الحال أن لا محاكمة من أي نوع في الرواية، ذلك أن الراوي بدا مشغولًا بجرد الحوادث على مسامع الزعيم، أكثر من انشغاله بطرح الأسئلة عليه، أو مواجهته بلائحة اتهام محددة. أما موضوع الدكتاتورية فإن ما قاله إبراهيم لا يزيد حرفًا واحدًا على القراءة المستقرة لدى الكثيرين: كان عبد الناصر قائدًا وطنيًا أطلق مشروعًا كبيرًا للتنمية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لكن عوامل عدة قوضت مشروعه على رأسها التفرد بالرأي.. فأين المقاربة الروائية الخاصة لموضوع الدكتاتورية؟!
اقرأ/ي أيضًا: