ثماني سنوات من عمر الصحفي والروائي الجزائري عدلان مدي، كي يمنح للفضاء الجزائري رواية جديدة عنونها بـ"1994"، لقد اختار عدلان مدي أن يبدأ من النهاية ويجعل من الموت وسنوات الجمر بداية لرواية تفتح جراح العشرية السوداء في الجزائر بعيون أربعة شباب من الأحياء الشعبية لمدينة الحراش بالجزائر العاصمة.
اختار عدلان مدي أن يبدأ من النهاية ويجعل من الموت وسنوات الجمر بداية لرواية تفتح جراح العشرية السوداء في الجزائر
جثث الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين العزل الذين ذهبوا ضحية لآلة القتل التي اجتاحت الجزائر في تلك الحقبة، جعلت عدلان مدي يدون ذكريات الحرب وما تبقى منها في النفوس والوجوه. ألهمته قصص الموت ليكتب عن أيام الجزائر السوداء على لسان مراهقين وجدوا أنفسهم فرضًا أمام ظروف غير مواتية لحياة طبيعية، هكذا سيطرح عدلان مدي سؤالًا كبيرًا: كيف السبيل للتعايش مع الحرب؟
اقرأ/ي أيضًا: "جنوب الملح".. رواية اليتم الأبدي
ينطلق عدلان مدي من تجربته كصحفي عايش أحداث العشرية السوداء بكل تفاصيلها، متشبعًا بمادة صحفية غنمها أثناء تغطيته لأخبار الموت والدمار، التي كانت ديكورًا للصفحات الأولى من كبرى الجرائد الجزائرية والعالمية، كل تلك الأخبار والمشاهدات وكذلك شهادات الناجين من المذابح والعمليات الإجرامية، كانت مادة دسمة استغلها صاحب "صلاة الموريسكي" لتأثيث يوميات الجزائري الباحث عن طريقة رحيمة للموت غير الانفجارات والموت ذبحًا، ليجد أحدهم أشلاءك مرمية على قارعة الطريق.
"ثانوية عبان رمضان" بمدينة الحراش، كانت الفضاء الذي جمع أمين وفاروق ونوفل وسيد علي. المراهقون الأربعة دفعتهم ظروف الحياة ليكوّنوا ما يشبه "ميليشيا" لمكافحة الإرهاب، بداية القصة كانت عام 2004 بعد وفاة "الجنرال سلامي" أحد المسؤولين في جهاز المخابرات والناشط في فرق مكافحة الإرهابية. كان الجنرال والد أمين، وفاته التراجيدية لوالده على يد أمراء الدم كان حافزًا له ولأقرانه من أجل الوقوف أمام آلة الدمار ووضع حد لأخبار الموت، كانت صور مفجّري الثورة الشباب تأتي لمخيلة هؤلاء المراهقين الذين اعتبروا الجلوس على هامش الأحداث ذلًا. الرواية رحلة مع هؤلاء الشباب وكيف استطاعوا أن يحبوا ويكرهوا، كيف بكوا وضحكوا في قلب سنين الجمر.
اختار عدلان مدي مدينة الحراش لتحتضن صراع الحياة والموت القائم في الجزائر، واختار عام 1994 كإطار زمني للأحداث، وهو العام الذي شهدت فيه صور الدمار ذروتها وبلغت "الحرب الأهلية" أوجها، وصارت شوارع الجزائر مسرحًا للاقتتال بين الجيش وقوات الأمن والمتطرفين. حرب وجد المدنيون أنفسهم منخرطين فيها بشكل أو آخر.
أخذ عدلان مدي يشرح الوضع المتأزم في ضاحية من ضواحي العاصمة التي يعتبر نمط العيش فيها شاهدًا كبيرًا على تناقض المشهد الجزائري أنذاك، ففي الحراش وجد المتطرفون والإرهابيون شيئًا من غياب الرقابة، كما كانت ملجأ الشيوعيين ومن وقفوا أيضًا ضد التطرف الديني الذي كان أولى نواة للجماعات الإرهابية، ضاحية عرفت بالتمرد في كل شيء وفي كل الأزمنة، مدينة ثارت عن المألوف ضد الجيش الإنكشاري والفرنسيين وضد الحكم المركزي بعد الاستقلال، ضاحية ثارت حتى ضد "نادي الشعب" مولودية الجزائر واعتنق سكانها اللونين الأسود والأصفر، لونا قميص فريق الضاحية "اتحاد الحراش"، المدينة نفسها هي أيضًا مسقط رأس الكاتب الذي شهد بأم عينيه جزءًا من مشاهد الدم، فكانت الرواية أيضًا فضاء لهواجسه وذكرياته وتفريغًا لشحنة ماض مثقل بالسواد.
لا تزال الكثير من تفاصيل "العشرية السوداء" تنتظر من يميط اللثام عنها، خاصة قصص المدنيين في القرى
لا تزال الكثير من تفاصيل "العشرية السوداء" تنتظر من يميط اللثام عنها، خاصة قصص المدنيين في القرى وضحايا الإرهاب الذين لم يجدوا لأنفسهم مكانًا في دفاتر التاريخ، فبعد ترسيم ميثاق المصالحة الوطنية صار الموضوع محاطًا بالصمت والريبة، رغم أن كتابة التاريخ عمل يومي متواصل يساهم فيه الروائيون والصحفيون وصناع السينما.
اقرأ/ي أيضًا: "هجرة حارس الحظيرة"...أن تضيع في جيب مانديلا
"1994" رواية سوداء، تنقل الشهادات وتمد الباحثين بمادة جديدة بعيدًا عن الرواية الرسمية، ففي المخيال الجزائري يبقى ذلك الهوس والفضول الكبير لاستكشاف خبايا أسوأ مرحلة في تاريخ الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: