يبدو أنّ لروبوت المحادثة الآلي إرني (Ernie) بعض الآراء الجدلية بشأن عددٍ من المسائل العلمية. فمن المعلوم أنّ إرني ابتكارٌ صيني رائد في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد أطلق للعامة بتاريخ 31 أغسطس الفائت، بيد أنّه أتى ببعض المعلومات الغريبة كالقول، مثلًا، إنّ وباء كوفيد-19 ظهر أولًا بين أوساط مدخني السجائر الالكترونية الأمريكيين في شهر يوليو سنة 2019، ثم انتشر في وقت لاحق من العام نفسه إلى مدينة ووهان الصينية عبر الكركند الأمريكي.
وبخلاف هذه الآراء العجيبة في المسائل العلمية، يطغى التحفّظ على إرني فيما يخص السياسة؛ فقد يصيبه الارتباك إنْ سُئل مثلاً: "من رئيس الصين؟"، فيجيب باسم والدة الزعيم الصيني شي جين بينج، دون أن يذكر أسماء إخوته، كذلك يخفق في الإتيان بأي جواب إنْ سُئِل عن عيوب الاشتراكية، وهو إلى ذلك يلجأ غالبًا إلى الابتعاد عن المحادثات الحساسة بالقول: "فلنتحدث عن موضوع آخر".
ولا ريب أنّ تحفّظ إرني ليس صادمًا ولا مستغربًا عند المستخدمين الصينين العارفين بالرقابة الشديدة المفروضة على الإنترنت في البلاد، غير أنهم قد يعجبون إنْ عرفوا الشركة المطورة لهذا الروبوت؛ فإرني من بنات أفكار بايدو (Baidu)، وهي شركة تكنولوجية عملاقة تفوقت عليها نظيراتُها منذ سنوات طويلة، وهي إلى ذلك تحاول استرجاع مكانتها القديمة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. ومن البديهي أن يُنبئنا مدى نجاح هذه الشركة في مسعاها بالآفاق المستقبلية للتكنولوجيا الصينية، التي ما برحت عنها الضغوط جرّاء قيود التصدير الأمريكية، والقبضة الاستبدادية للرئيس تشي.
ومن المعروف أن شركة بايدو، التي تدير أكبر محرّك بحث في الصين، تبوّأت قبل عقد من الزمن منزلة الصدارة في مجال الإنترنت في البلاد؛ إذ شكّلت مع علي بابا ويتنسنت- أي الشركتين الأعلى قيمة في مجال الإنترنت في الصين- ثلاثيًا تكنولوجيًا عرف اختصارًا بمصطلح بات (bat). ولم تواجه بايدو في السابق أي منافسة بارزة بسبب حظر محركات البحث الأجنبية، أو الرقابة الشديدة المفروضة عليها في البلاد.
وبطبيعة الحال حافظت بايدو على هيمنتها في هذا المجال، فهي ما تزال تستحوذ على نسبة قدرها 90% من حركة البحث في الصين، غير أنّ مكانتها السابقة انخسفت بشدة جرّاء التحولات البارزة التي عصفت بقطاع التكنولوجيا.
يطغى التحفّظ على "إرني" فيما يخص السياسة؛ فقد يصيبه الارتباك إنْ سُئل مثلاً: "من رئيس الصين؟"، فيجيب باسم والدة الزعيم الصيني شي جين بينج، دون أن يذكر أسماء إخوته، كذلك يخفق في الإتيان بأي جواب إنْ سُئِل عن عيوب الاشتراكية
ففي الوقت الراهن يستطيع أغلب المستخدمين الصينيين بلوغ شبكة الإنترنت عبر تطبيقات فائقة مثل وي تشات (WeChat) التابع لشركة تينسنت، في حين ذهبت أموال الإعلانات إلى تطبيقات مثل دويين (Douyin)، وهو النسخة الصينية من تطبيق تيك توك الشهير. كذلك تجاوزت شركة ميتوان (Meituan)- وهي منصة توصيل- وشركة بيندودو (Pinduoduo)- وهي شركة للتجارة الإلكترونية- قيمة شركة بايدو البالغة نحو 50 مليار دولار أمريكي. وقد بذلت الشركة جهودًا حثيثة لمنافسة نظيراتها ومحاكاة خدماتهم المتنوعة، فأطلقت خدمات التوصيل والتسوق، فضلاً عن خدمات أخرى مثل الدفع ووسائل التواصل الاجتماعي، بيد أنّ جُلّ هذه المساعي باء بالإخفاق. وفي الوقت الراهن تعادل القيمة السوقية الإجمالية لبايدو ثُمنَ قيمة تينسنت، بعدما كانت تعادل الخُمْسَ قبل خمسة أعوام.
ولا شكّ أن طرح بايدو لروبوت الذكاء الاصطناعي يُعيد بعض الحماسة للشركة؛ إذ ناهز عدد مرّات تنزيل التطبيق المليون عقب 19 ساعة فقط من إصداره (لو قارنا العدد مع روبوت تشات جي بي تي، لوجدنا أنّه بلغ مليون تنزيل خلال خمسة أيام وفقًا لشركة أوبن إي آي المطورة). كذلك ارتفعت أسهم الشركة بما يربو عن 4% يوم إصدار التطبيق، لا سيّما أن المحللين والمستثمرين والمستخدمين العاديين أمطروا روبوت المحادثة بوابل من الأسئلة المتنوعة. وصحيح أنّ أربع شركات أخرى- منها شركة سينس تايم (SenseTime) المختصة بتكنولوجيا التعرف على الوجوه- قد أطلقت خدمات مشابهة في اليوم عينه، وصحيح أن ستّ شركات إضافية حظيت بموافقة الحكومة الصينية، بيد أنّ إرني يستحوذ على الحماسة الأكبر من بينها جميعًا.
وسبق لروبن لي، الرئيس التنفيذي لبايدو وأحد المؤسسين المشاركين، قد قال في الشهر الماضي إنّ إصدار تطبيق الذكاء الاصطناعي بمنزلة "النقلة النوعية" للشركة، على أنّ الأمر لم يحدث بين عشية وضحاها؛ فالسنين الطوال من الاستثمار جعلت بايدو من أكثر شركات الذكاء الاصطناعي تطورًا في الصين، لا سيما في ظلّ نظام عملٍ يشمل تصميم الرقائق الإلكترونية، وإطار التعلم العميق، والنماذج والتطبيقات الخاصة. وقد بدأت بايدو تطوير إرني منذ عام 2019، فهي بذلك في طليعة الشركات التي باشرت تجريب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي.
لا عجب أنّ المستخدمون قد يسأمون من عجز تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني عن الإجابة أحيانًا، أو ربما يخشون الإبلاغ عنهم إن طرحوا عليه أسئلة تُصنف أنها غير قانونية
ومع ذلك تتفادى بايدو تقديم أي معلومات إرشادية عن مساهمة هذه التكنولوجيا في نتائجها الصافية، لكن المحللين يرون أن إرني سيستقطب ولا ريب حركة زيارات أكبر إلى محرك البحث التابع للشركة وخدماتها الأخرى، وبذلك تزداد لديها عائدات الإعلانات. كذلك رسّخت بايدو موقعها على أنّها أكبر مزود سحابي للذكاء الاصطناعي في الصين، فهي باشرت توفير حلول مُفصّلةٍ للشركات الراغبة بتصميم نماذج ذكاء اصطناعي لها بعينها دونًا عمن سواها.
وتبدو الضجة والحماسة أخف بكثير بشأن إقبال بايدو على نشاط آخر في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو توفير سيارات أجرة ذاتية القيادة؛ إذ أُطلقت هذه الخدمة في بعض المدن الصينية، وهي تتيح للمستخدمين طلب سيارات الأجرة الآلية باستعمال تطبيق للهاتف الجوال. ومع ذلك تستلزم هذه الخدمة مراقبة الرحلات عن بعد، وهي إلى ذلك قد تستغرق وقتًا طويلًا للانتشار على نطاق واسع ضمن البلاد، فقلّة من المحللين يتوقعون أن تحقق أرباحًا كبيرة في المستقبل القريب.
ولا ريب أن التطورات المستقبلية لبايدو مرهونة بالعملية السياسية في بكين وواشنطن؛ فالقيود التي فرضتها إدارة بايدن على بيع الرقائق الإلكترونية المتطورة للصين تلحق ضررًا كبيرًا بالشركة، لا سيما أنّ جميع هذه الرقائق تقريبًا تنتج خارج الصين، وهي عناصر جوهرية لا غنى عنها لتدريب النماذج في معظم الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي التوليدي. وصحيح أنّ استخدام كمية أكبر من الرقائق المنخفضة الطاقة خيارٌ بديل، بيد أنّها باهظة الثمن.
ويعتمد تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي في بايدو على رُقاقة كونلونكسين (Kunlunxin)، فالشركة تصمم الرقاقة بنفسها، غير أن الإنتاج يستلزم الاستعانة بمصادر خارجية مثل Tsmc، وهي شركة تايوانية مختصة بتصنيع أشباه الموصلات. وتفرض القيود الأمريكية حدودًا على أنواع الرقائق التي يَسعُ الشركات الأجنبية بيعها للشركات الصينية، يضاف إلى ذلك عجز الموردين المحليين عن إنتاج هذه المكونات المتطورة. وعكفت بايدو منذ إعلان القيود الأمريكية على التهوين من رقائق كونلونكسين، غير أنّ الأمر يوحي بمواجهتها عراقيل كثيرة لشراء تلك الرقائق وتوفيرها.
وعلى الصعيد الداخلي في الصين، تولي الحكومة عناية فائقة بتنظيم الذكاء الاصطناعي، فهي إلى ذلك تبادر بخطواتها قبل البلدان الأخرى. بيد أنّ إجراءات الحكومة الصينية لم تسبب ذعرًا بين أوساط المديرين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا الكبرى في البلاد. وفي هذا الصدد يؤكد أحد المسؤولين التنفيذين أن الهيئات الناظمة مدركة تمامًا للقيمة التجارية للذكاء الاصطناعي، وهي تريد أن تجني الشركات الصينية أرباحًا وفيرة من هذا المجال، فهم على يقين تام بضرورة تسهيل الإجراءات أمام الشركات الصينية لمنافسة نظيراتها على المستوى العالمي.
ومن هذا المنطلق صدرت الموافقة على الدفعة الأولى من روبوتات المحادثة الآلية بسرعة تفوق المتوقع، خاصة أنّ تأخير الإجراءات، كما يحدث مثلًا مع الألعاب الإلكترونية، يلحق ضررًا بقيمة أسهم الشركات الصينية المصنعة لها.
ومع ذلك تنطوي بعض القوانين الحكومية على عراقيل ترهق كاهل الشركات في هذه الصناعة الناشئة؛ إذ يُطلب من الشركات المقدمة لخدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي أن تتكفل بتحديد "المحتوى غير القانوني" والإبلاغ عنه، وهم ملزمون أيضًا بـتبني "القيم الاشتراكية الأساسية" للصين، وهو أمر يشوبه الغموض والشمولية؛ فعلى سبيل المثال اكتشف مستخدمو الإنترنت أنّ كتابة عبارة "قطة وطنية" في تطبيق الرسم ضمن إيرني يؤدي إلى ظهور قطط عليها علم أمريكي، حظرت كلمات "الوطنية" و"القط الوطني" من الأداة.
ولا عجب أنّ المستخدمون قد يسأمون من عجز تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني عن الإجابة أحيانًا، أو ربما يخشون الإبلاغ عنهم إن طرحوا عليه أسئلة تُصنف أنها غير قانونية. وهنا يحذر كاي وانج، من شركة Morningstar للأبحاث، أنّ مغارمَ الرقابة والامتثال ستزداد رويدًا رويدًا لشركة بايدو وغيرها.
وأبانت التجربة الأخيرة للمسؤولين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا الصينية أنّ أعمالهم مرتهنة لإرادة الحكومة، وأنّ موافقتها وتأييدها لأعمالهم قد تُسحب بين عشية وضحاها؛ فكثير من شركات الإنترنت الصينية تعرضت لحملات تنظيمية بين عام 2020 و2022، فإن وقعت حملة مشابهة لتنظيم مجال الذكاء الاصطناعي، عندئذ قد يلحق ضرر فادح بالشركات المستثمرة في هذا المجال، لا سيما بايدو التي يبدو أنّها تجسّ نبض الحكومة في مشروعها ضمن هذه البيئة الصعبة والمعقدة، لذلك حريّ بنا أن مراقبة ما يقوله روبوت إيرني، وما يسكت عنه!
*هذا المقال مترجم من الإيكونوميست.