12-أكتوبر-2022
كتب روبير سوليه

كتب روبير سوليه

روبير سوليه مسكون بالحنين. تطارده على الدوام ذكريات طفولته الذهبية، عندما كان يعيش فيما يصفه هو بالجنة. وما الجنة سوى مصر الأربعينات حيث نشأ وسط مجتمع كوزموبولتي يعيش فيه العرب إلى جانب اليونانيين والفرنسيين والطليان.. ويتجاور المسلمون والمسيحيون واليهود. وهذا ما سيغدو فردوسًا مفقودًا يستحق الرثاء بعد ثورة يوليو (1952)، وخاصة بعد العدوان الثلاثي، الذي دفع عبد الناصر إلى طرد الجاليات الأجنبية من البلاد.

ولد روبير سوليه في العام 1946 لعائلة فرنسية تعيش في مصر، وظل مصريًا حتى بلغ الثامنة عشرة حيث رحل في العام 1964 إلى فرنسا، وهناك قرر نسيان ماضيه المصري وفتح صفحة فرنسية جديدة

ولد سوليه في العام 1946 لعائلة فرنسية تعيش في مصر، وظل مصريًا حتى بلغ الثامنة عشرة حيث رحل في العام 1964 إلى فرنسا، وهناك قرر نسيان ماضيه المصري وفتح صفحة فرنسية جديدة. عمل مراسلًا لصحيفة اللوموند في روما ثم في واشنطن، وصار بعد ذلك رئيس تحرير الملحق الأدبي في الجريدة المرموقة..

غير أن كل هذا لم يجد في كبت أطياف الطفولة والشباب القادمة من وراء البحر، هكذا قرر بعد عشرين عامًا أن يعود إلى مصر، حيث جنته العصية على النسيان والتناسي. وبالطبع كان اللقاء مخيبًا للأمل، إذ لم يبق شيء يذكر من فردوسه القديم.. لقد صار مجرد صور وذكريات في رأسه هو، وحكايات في كتب التاريخ.

وإذا كانت العودة قد سببت له الإحباط فقد قرر أن يعالج حنينه بالكتابة، مستعيدًا مصر القديمة الزاهية ولو على الورق..

في روايته "الطربوش"، (ترجمة رندة بعث، دار ورد)، ملامح كثيرة من سيرة سوليه وعائلته، فهنا ثمة عائلة مسيحية شامية تعيش وسط خليط أممي وديني، وتحقق نجاحات تجارية، ولا سيما باحترافها صناعة الطرابيش، وهنا كذلك تحتشد كل المكونات والعناصر التي صاغت مصر التي يفتقدها الكاتب. وكما جاء في التقديم فالرواية هي "ساغا عائلية، رواية عن الزمن الماضي في شرق قريب جدًا. تستعيد لنا.. عالمًا من العذوبة والرقة وهو يتنقل ما بين سطحيات فندق هليوبوليس وشواطئ الإسكندرية ومروج نادي الخديوي الرياضي..".

ولكن هذا لن يدوم، فبعد فترة قصيرة "سوف يستولي ضباط يرتدون القبعة العسكرية على السلطة، وترحل موضة الطربوش، سيكون هذا إيذانًا بنهاية عالم، وبداية مناف أخرى..".

في كتابه "مصر: ولع فرنسي"، (ترجمة لطيف فرج، مهرجان القراءة للجميع)، يدور سوليه حول الصور نفسها، ولكنه مؤرخ هنا وليس روائيًا. إنه كتاب تاريخ محكم، مترع بالوقائع والوثائق والتواريخ، ومع ذلك فإن الاختباء وراء الموضوعية لا ينفع في إخفاء الحنين.

يسرد سوليه في كتابه هذا سيرة خمسمئة عام من العلاقات الفرنسية المصرية، وبالأدق: سيرة خمسمئة عام من الولع الفرنسي بمصر.

يشير بداية إلى الملك الفرنسي لويس التاسع الذي قاد، في أواسط القرن الثالث عشر، حملة صليبية فاشلة، انتهت بأسره من قبل المماليك، حكام مصر الجدد وقتئذ، ولكن المؤلف سرعان ما يستدرك مؤكدًا أن هذه الواقعة ليست هي البداية المثلى للحكاية، ذلك أنها تنتمي إلى زمن قديم مضى بقضه وقضيضه. أما ما يصلح لاستهلال الحكاية، فهو يكمن في القرن السادس عشر عندما راح "حجاج وتجار وفضوليون" فرنسيون يستوطنون على ضفاف النيل.

غير أن هذا مجرد استهلال، أما البداية الحقيقية فهي أكثر دراماتيكية: 54 ألف جندي فرنسي تحملهم تسعة عشرة سفينة يغزون مصر بقيادة رجل اسمه نابليون بونابرت، وهو ما سيُخلد في التاريخ تحت اسم الحملة الفرنسية..

كثير من الفرنسيين جاؤوا في زيارة خاطفة إلى مصر وإذا بهم يقيمون فيها حتى مماتهم، بل أن بعضهم قد غير اسمه وهويته حبًا في بلاد النيل، كالقائد مينو الذي صار عبدالله مينو، أو ذلك المستشار الذي صار اسمه سليمان باشا الفرنساوي

سوف يختلف الفرنسيون والمصريون (والعرب جميعهم من ورائهم) في تقييم هذا الحدث، بل وسوف يغير المصريون أنفسهم رأيهم فيه مرارًا، ولكن الثابت من وراء كل ذلك أن الحملة الفرنسية كانت مفصلًا خطيرًا، ذلك أن المشرق العربي برمته لن يكون بعد الحملة مثله قبلها. إنها الصدمة التي سوف تجعله يصحو على إيقاع العصر المتسارع بعد أن كان في سبات طويل بمنأى عن التاريخ.

غير أن العسكر والسياسيين ليسوا هم أبطال الكتاب. إنهم يقبعون في الخلفية، أما من يتصدر الواجهة فهم العلماء والأدباء والمثقفون الذين أصيبوا بـ "الهوس المصري": دينون، شامبليون، أوغست مارييت، فردينان دولسيبس، غاستون ماسبيرو.. وعشرات غيرهم.

والواقع أننا نصادف حكايات غريبة كثيرة عن أناس أصابتهم لوثة مصر، أناس كانوا معلمين أو رسامين أو موظفين عاديين ثم انتهوا علماء في المصريات، هذا العلم الذي سوف يغوي الآلاف من الفرنسيين ويغدو الأكثر جذبًا واستقطابًا من بين جميع التخصصات.

وكثير من الفرنسيين جاؤوا في زيارة خاطفة إلى مصر وإذا بهم يقيمون فيها حتى مماتهم، بل أن بعضهم قد غير اسمه وهويته حبًا في بلاد النيل، كالقائد مينو الذي صار عبدالله مينو، أو ذلك المستشار الذي صار اسمه سليمان باشا الفرنساوي..

هنا أيضًا، يتحدث سوليه عن المجتمع الكوزمبولتي الذي احتضنته مصر طيلة عقود، وهو يرصد الجانب الآخر من الصورة، عندما ينظر من زاوية ضحايا هذا المجتمع. إنهم المصريون أصحاب البلاد وسكانها الأصليون، والذين عانوا من التمييز، وانعدام الفرص، ومن بطش السلطات المنحازة للأجانب المتنفذين. ولكن هذا لا يلغي مأساوية النهاية التي جاءت كرد فعل متسرع ومبالغ فيه، وكانت على شكل تصفية تامة لهذا الخلطة الفريدة من قبل ضباط يوليو المتحمسين..

اهتمام روبير سوليه بمصر لم يتوقف عند التاريخ، فأثناء ثورة يناير المصرية (2011) لعب الرجل دور الصحفي ووثق مجريات الحلقة الأبرز من "الربيع العربي" في كتاب حمل عنوان "سقوط الفرعون.. ثمانية عشر يومًا غيرت وجه مصر"، (صدرت نسخته العربية عام 2013 عن مكتبة الأسرة وبترجمة الدكتورة ناهد الطناني).

يكتب سوليه: "إن مجرد التطلع إلى الديمقراطية وطرد نظام شمولي لا يكفى لإقرار الديمقراطية، هناك في مصر قوى ظلامية تسعى للاستفادة من حالة الاضطراب الحالية، لفرض أفكار تعود لعصر آخر، وإعادة البلاد قرونًا إلى الوراء، ولا أرى لماذا يجد هذا الشعب المتحضر نفسه مضطرًا للاختيار ما بين الدكتاتورية البوليسية والديكتاتورية الدينية، فهناك طريق ثالث هو الديمقراطية".

وينقل عن مصريين كثر تأكيدهم أن "هذه الأيام الثمانية عشر هي أجمل أيام حياتنا"، ويقول: "هي دعوة للتقدم إلى الأمام أكثر منها مجرد ذكرى، فثورة الخامس والعشرين من يناير ما تكاد تبدأ".