يتلقى الشارع المصري الذي ما زال يتعافى من ارتفاعات متكررة للأسعار على مدار السنوات الأربع السابقة، صدمة من جديد، لن تكون الأخيرة، ويعرف الشارع المصري أن الأسعار سترتفع وأن الدعم في طريقه للإلغاء، بالرغم من كل ذلك ما زال الصمت مستمرًا، لا يجرؤ حتى اللحظة أحد على الاعتراض.
من المعتاد لدى النظام المصري اختيار ليالي العطل الأسبوعية أو الرسمية، لإعلان القرارات المرتبطة برفع الدعم عن سلعة ما
ورغم القفزات الكبيرة في الأسعار في عهد السيسي إلا أن الصمت الشعبي مستمر، حتى مع الارتفاع الأخير منذ أيام لأسعار الوقود، الذي يقود بالتبعية ارتفاع عشرات السلع الأخرى كالخبز والخضروات والمواصلات، وخلال السنوات الأربع الأخيرة تمكن النظام المصري من السيطرة على مفاصل الدولة، وتمكن السيسي من فرض سلطته منفردًا وبمساندة اللواء عباس كامل، مدير مكتبه ورئيس المخابرات العامة، ومعارضوه أمام السجون أو ينتظرون دورهم، أو خارج البلاد.
ووفقًا لمعطيات كثيرة، يمكن استنتاج مجموعة من الاستراتيجيات التي يعتمد عليها السيسي لإسكات المصريين وتنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي، حتى يتمكن من الحصول على قروض، يعتمد أبرزها على التوقيت الذي يصدر فيه القرار. والمعتاد لدى النظام المصري اختيار ليالي العطل الأسبوعية أو الرسمية، لإعلان القرارات المرتبطة برفع الدعم عن سلعة ما، وضمانًا لعدم وجود أي اعتراضات شعبية فالرعب أصبح جزءًا من وجود هذا النظام، سواء بالتهديدات الصريحة التي يرسلها السيسي للشعب في خطاباته أو من خلال اعتقال النشطاء السياسيين بشكل مستمر، مع وجود دعم إعلامي قوي يبرر أي قرار للرئيس، ومع محاصرة الحركة الطلابية والعمالية على حد سواء، لتكون النتيجة صمت في الشارع وصراخ واعتراضات في السر. وهي نزعة تشبه تلك التي كان يميل إليها الرئيس المعزول، حسني مبارك، الذي تركزت أغلب فترات حكمه على فرض التواجد الأمني والعصف بالمعارضين.
التوقيت وأبرز القرارات
في منتصف كانون الثاني/ يناير 1977، استيقظ المصريون على إعلان ارتفاع أسعار أغلب السلع الاقتصادية، وانطلقت شرارة الاحتجاجات في حلوان جنوب القاهرة، ثم انتقلت إلى أجزاء أخرى من العاصمة، فيما عرف بـ"انتفاضة الخبز"، ولم تستطع الشرطة السيطرة على الشارع وأعلن الرئيس السادات نزول الجيش للشوارع وتطبيق حظر التجوال، والتراجع عن القرارات الاقتصادية. كانت تلك التجربة ملهمة لأغلب القرارات الاقتصادية المتعلقة برفع الأسعار وإلغاء الدعم الجزئي بعد ذلك، واستخدم السادات ومبارك طريقة أخرى عند الزيادات المتباعدة لتجنب احتجاجات شبيهة.
وللسيسي أيضًا في واقع الأمر فلسفته، حيث يختار نظامه توقيتًا شبه معتاد لرفع الأسعار لامتصاص غضب الجماهير، مثل ليالي أيام الخميس أو العطل الرسمية، ويترافق ذلك مع إعداد تأمين أمني في المناطق المتوقع فيها أي نشاط رافض للزيادات، كما حدث في الزيادات الأخيرة لسعر الوقود التي تمت في ثاني أيام عيد الفطر، ومع انشغال أغلب المصريين بمباريات كأس العالم.
ورصد "ألترا صوت" أبرز الارتفاعات التي استغل فيها النظام المصري أحداثًا وعطلًا لتمرير ارتفاع الأسعار، مثل ارتفاع أسعار الوقود، الذي تم على أربعة مراحل جميعها ارتبط بعطلات رسمية.
جاء الارتفاع الأول يوم الخميس 3 تموز/يوليو 2014، والارتفاع الثاني يوم الخميس 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، والثالثة الخميس 29 حزيران/يونيو 2017، ثم جاءت المرحلة الأخيرة مع عطلة العيد في 16 حزيران/يونيو 2018.
تكشف المقارنة بين أسعار الوقود بين عامي 2014 و2018 القفزات المتسارعة في الأسعار، فثمن لتر البنزين 95 وصل لنحو 7.75 جنيه بدلًا من 5.85 جنيه في 2014، وسعر لتر البنزين 92 بـ 6.75 جنيه بدلًا من 1.85 جنية في 2014، ولتر البنزين 80 بسعر 5.5 جنية بدلاً من 90 قرشا في 2014، والسولار أيضا حاليًا ثمنه 5.5 جنيه بعد أن كان في 2014 بـ 110 قرش،
كان قرار تعويم العملة المصرية أيضًا يوم الخميس 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ويصفه البعض بالخميس الأسود وتحول في ذلك اليوم سعر الدولار بدلًا من 8.88 جنيهات إلى نحو 13 جنيهًا، ثم ارتفع مرة أخرى ليستقر بين 17 إلى 19 جنيهًا، وترتفع مع القرار أسعار العديد من الخدمات على رأسها أسعار تذاكر الطيران، وجمارك السيارات المستوردة، الأمر نفسه تم مع قرارات رفع أسعار الكهرباء المنزلية والغاز المنزلي والسجائر، وكذلك الجمارك والدواء وغيرها من السلع التي شهد أغلبها بعد قرار تعويم الجنيه ارتفاعًا شديدًا، وصدرت جميع القرارات المتعلقة بتلك الخدمات يوم الخميس وفي عطلات.
قانون القيمة المضافة الذي صدق عليه السيسي يوم الخميس 8 أيلول/سبتمبر 2016 وتسبب في ارتفاعات جنونية في أسعار العديد من السلع من بينها كروت الشحن للهواتف، والتي شهدت أيضًا ارتفاعًا وكان يوم الخميس 23 أيلول/سبتمبر 2017، وكذلك تذكرة مترو الأنفاق والتي كانت من ضمن الخدمات والسلع التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا مرتين يوم الخميس 10 أيار/مايو 2018، ويوم الخميس 23 آذار/ مارس 2017.
اقرأ/ي أيضًا: بعد جولة من إخفائهما قسريًا.. ظهور الأعصر والبنا في نيابة أمن الدولة
التهديد المستمر والاعتقال
وكان ارتفاع تذكرة مترو الأنفاق أبرز المحطات التي شهدت رفضًا شعبيًا لم يتوسع، فبمجرد أن تظاهر العشرات أمام بعض محطات المترو اعتقلتهم قوات الأمن لمنع انتقال المظاهرات، حيث يعتمد النظام المصري على الجانب الأمني في الحكم والسيطرة، سواء عبر التهديد أو الاعتقال والإخفاء القسري.
وبعد مطالبة الشعب بالصبر والمساندة لعامين فقط، تحولت لهجة خطابات السيسي إلى التهديد، سواء بانتقاد ثورة يناير في حالة تكرارها أو التهديد بمصير مصري مشابه لسوريا، أو تهديد المواطنين بالجيش والانتشار في طول البلاد وعرضها في ستة ساعات، والتهديد يعد الحل الأسهل لدى ديكتاتور، لم يجد أي حرج في اعتقال وتلفيق التهم وتهديد منافسيه على مقعد الرئيس قبل الانتخابات المصرية، التي تمت في آذار/مارس الماضي.
وقف السيسي الذي لا تنفك لهجة خطاباته تثير جدلًا، قبل الانتخابات المصرية ليقول: "إللي هييقرب من الكرسي يحذر مني"، وخلال تلك الفترة اعتقل العشرات من الشخصيات العامة من أبرزهم سامي عنان رئيس الأركان الأسبق، وهشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، وعبدالمنعم أبوالفتوح المرشح الرئاسي السابق، ومحمد القصاص نائب رئيس حزب مصر القوية.
وقف السيسي الذي لا تنفك لهجة خطاباته تثير جدلًا، قبل الانتخابات المصرية ليقول: "إللي هييقرب من الكرسي يحذر مني"
التهديد بشكل معلن موجه للشعب لتخويفه والتأكيد على مواجهة مصير الاعتقال الذي يواجهه النشطاء وأصحاب الرأي والمعارضون من الشباب والشخصيات العامة والرسمية السابقة، وأن الجميع يواجه خطر الإخفاء القسري والاعتقال، هو استراتيجية ثابتة، يتعامل فيها نظام السيسي مع الشارع والمواطنين.
وتشير الأرقام لارتفاع ظاهرة الإخفاء القسري، وخلال الفترة ما بين آب/أغسطس 2015 وآب/أغسطس 2016، وثقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، 912 حالة إخفاء قسري، لم تظهر 52 حالة حتى وقت صدور تقرير المفوضية في آب/أغسطس 2017، وكان الصحافي في موقع ألترا صوت مصطفى الأعصر وزميله حسن البنا مبارك من أبرز حالات الاختفاء القسري التي حدثت منذ كانون الثاني/يناير 2018.
وقبل أيام من رفع الأسعار الأخير، شنت السلطة المصرية حملة اعتقال لعشرات النشطاء، من أبرزهم حازم عبدالعظيم، العضو السابق في حملة السيسي، والناشط السياسي وائل عباس، والمحامي هيثم محمدين وكذلك شادي الغزالي حرب عضو ائتلاف شباب الثورة سابقًا، والناشطة أمل فتحي، والمراسل شادي أبوزيد، وتركزت الاتهامات لهؤلاء النشطاء وفقًا لبيان لـ"هيومن رايتس ووتش" حول منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ونشاطهم السلمي فقط.
اقرأ/ي أيضًا: الحركة الطلابية الأزهرية منذ 2013.. الثمن النضالي الأعلى
النشاط الجامعي والنقابي والإعلام
خلال الانتفاضات المصرية ضد الغلاء والظروف الاقتصادية، مثل انتفاضة الخبز 1977، وانتفاضة المحلة 6 نيسان/أبريل 2008، لعبت الحركة الطلابية والتنظيمات العمالية دورًا محوريًا، ومنذ صعود السيسي وعزل محمد مرسي، استهدف النظام هذين المحورين بشكل رئيسي مع محاور أخرى، وقام باعتقال وتهديد نشطاء الحركة الطلابية، كما حاصر التنظيمات العمالية.
قبل أيام من رفع الأسعار الأخير، شنت السلطة المصرية حملة اعتقال لعشرات النشطاء
كل شيء كان مباحًا ضد الطلاب؛ القتل والاعتقال والوضع على قوائم الإرهاب، ووفقًا لتقرير صادر عن مرصد "طلاب حرية"، فإن السلطات المصرية في الفترة من عزل محمد مرسي حتى 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، اعتقلت نحو 5975 طالبًا وطالبة، كان ما زال 3353 منهم رهن الاعتقال حين صدور التقرير، ومع تصاعد أحداث 30 حزيران/يونيو توقفت الانتخابات في الجامعات المصرية وعادت مرة أخرى في عام 2015، ونجحت مجموعة من الطلاب رفضت وزارة التعليم العالي الاعتراف بفوزهم وأعلنت حل الاتحاد العام لطلاب مصر بعد خسارة قائمة صوت طلاب مصر، المدعومة من الدولة.
بينما واجهت الحركة العمالية هجومًا كبيرًا وانتهاكات متكررة خلال عامين من حكم السيسي 2014-2015، ووجهت لعشرات العمال اتهامات وتم القبض عليهم وتعرض بعضهم لمحاكمة عسكرية إضافة إلى فصل آخرين والاعتقال للبعض الآخر لأيام، ومحاصرة النقابات المستقلة ومنعها من العمل وإرغام العمال على العمل تحت إطار الاتحاد الرسمي التابع للدولة والداعم للسيسي، ووجهت هيومن رايتس ووتش انتقادات للنظام المصري في نيسان/أبريل الماضي، واعتبرت ما يحدث قمع للعمال، إذ اعتُقل ما لا يقل عن 180 عاملًا وحكموا خلال 2016 و2017. وأكد تقرير المنظمة أن الإصلاح الاقتصادي الصلب لا يمكن أن ينجح دون حرية الحراك العمالي.
وتعد استراتيجية الإعلام واللجان الإلكترونية من أهم وأبرز استراتيجيات الضبط والتحكم التي تقود الصمت الشعبي المصري، ويتركز معظمها على دعم مفتوح وغير مبرر، لجميع قرارات الرئيس والدفاع عنها واتهام الشعب بالتسبب في الأزمات الاقتصادية أو تبريرها من خلال الزيادة السكانية، كما يستخدم النظام هذا الإعلام في مواجهة المعارضين لقرارات الرئيس والهجوم عليه، وتنشر تلك المواقع واللجان مقارنات بين الأسعار في مصر وبعض الدول حول العالم أغلبها من دول العالم الأول، دون إعلان لمتوسط الدخل والمرتبات، وتحمل تلك الصحف شطحات، تعتمد على سردية الأمن أولًا حتى بدون سياق، بلغت حد الدفع بكاتب في جريدة خاضعة لسيطرة الأجهزة الأمنية، لكتابة مادة بعنوان "وطن تشتعل فيه نار الأسعار.. أفضل من وطن تشتعل فيه نار الخراب والدمار".
اقرأ/ي أيضًا:
غضب وسخرية في مصر بعد موجة جديدة من رفع أسعار خدمات الاتصالات
رفع أسعار تذاكر المترو في مصر.. النظام على "سكة" الخصخصة الشاملة