أثار الموقف الذي اتخذه نجم كرة القدم كريستيانو رونالدو، والمتمثل بإزاحة عبوات شركة المشروبات الغازية العالمية "كوكا كولا"، خلال مؤتمر صحفي قبل مباراة منتخب بلاده "البرتغال" ضمن بطولة أوروبا، جدلًا واسعًا في العالم، وخاصة بعد خسارة شركة "كوكا كولا" 1.6% من قيمة أسهمها السوقية، أي ما يعادل قرابة أربعة مليارات دولار أمريكي، وهذا يحتاج بالضرورة تأكيدًا من الشركة؛ لأن البعض يرى ما حدث بالنسبة للأسهم، جاء بشكل طبيعي بسبب تزامن موقف رونالدو مع توزيع أرباح أسهم الشركة.
الموقف الذي اتخذه رونالدو بحق كوكا كولا يأتي في إطار ما يعرف بالمنظور الأخلاقي في العلاقات العامة ممارسة وتنظيرًا
على الرغم من أن هدف رونالدو حمل معاني أخلاقية ظاهريًا؛ كونه يتماشى مع القيم الرياضية، إلا أنه من الممكن أن تكون هناك أهداف أخرى مخفية وغير معلنة. فهل هذا الموقف جاء نتيجة لقناعات حقيقية صادقة أم لإحداث تأثير ما في الرأي العام الدولي لصالحه وللترويج له كنجم رياضي؟ فرغم إعلانه صراحة استياءه من تصرفات ابنه المتمثلة بشربه "الكوكا كولا والفانتا"، في إحدى المقابلات الصحفية، إلا أنه سبق وقد ظهر- أي رونالدو- في إعلان تجاري ترويجي لمنتج شركة "هيربلايف"، الذي يتهم بأنه غير صحي، ما يشير إلى وجود تناقض قيمي في ممارسته، إضافة إلى اتهامه باستهداف سمعة نجم كرة القدم "ليونيل ميسي" الذي سبق وأن عمل إعلانات تجارية لشركة المشروبات الغازية "بيبسي".
اقرأ/ي أيضًا: تمثال كريستيانو.. الجماهير تسخر والنحات يرد
الموقف الذي اتخذه رونالدو يأتي في إطار ما يعرف بالمنظور الأخلاقي في العلاقات العامة ممارسة وتنظيرًا، فالأخلاق تمنح العاملين في العلاقات العامة الصدق والولاء والثقة للمؤسسة، التي ينتمون إليها، أو يعملون لتحقيق أهدافها. ويعد الإطار الأخلاقي الناظم لعمل العلاقات العامة منهجًا لتحليل ممارسات العلاقات العامة، ومنع التلاعب لتضليل الجمهور من جهة، وإقناعه بصدقية هذه الممارسات من جهة أخرى. وتحكم الأخلاق عمل المؤثرين في حقل العلاقات العامة، وتساهم في كيفية اتخاذ قراراتهم في ظروف محددة، وإعلان مواقفهم تجاه قضايا محددة، وخلق توازن بين المصالح الفردية، والقيم الشخصية، وقيم المنظمة، أو المؤسسة التي ينتمون إليها، أو تلك التي ينتقدون سلوكها وتوجهاتها.
الفكرة الأساسية والجوهرية تتمحور حول أخلاقية رعاية بعض الشركات الغذائية، كشركات وجبات الأكل السريع "ماكدونالدز"، وكذلك شركات المشروبات الغازية "كوكا كولا"، لفعاليات رياضية كبطولة أمم أوروبا لكرة القدم، التي طرحت تساؤلًا أخلاقيًا جوهريًا بهذا الخصوص، لتفتح الطريق أمام الباحثين وممارسي العلاقات العامة والتسويق بشأن هذا التناقض الصارخ حول العالم. حيث تشكل هكذا ممارسات تلاعبًا في الرأي العام. فقد ارتبطت الصورة النمطية لمشروب "كوكا كولا"، من انتصار الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، إذ انتشرت صور الجنود الأمريكيين يفخرون بانتصارهم، وهم يشربون هذا المشروب الغازي. ومع مرور الزمن تحولت الصورة الذهنية من النصر والتفوق، لتعطي دلائل ورسائل غير إدراكية حول مفهوم السعادة كهدف إنساني سامٍ. وعملت الشركة على مزج "الصورتين"، عبر توظيف نجوم كرة القدم وهم يشربونها احتفالًا بانتصارهم في مباريات كرة القدم. كما عملت- منذ ما يقارب 100 عام- على الترويج لعلامتها التجارية، وإدارة سمعتها بما يهدف إلى ربط مفهوم السعادة والنصر بالتفوق الأمريكي، واستقطاب الشباب المعجبين بالنموذج الأمريكي حول العالم، بحماسة وجاذبية، من خلال رعايتها للأحداث الرياضية.
وبطبيعة الحال، فإن الشركات- لا سيما "كوكا كولا"- تهدف في غايتها القصوى لتحقيق الربح، وتوظيف ما يمكن توظيفه من أساليب العلاقات العامة لخلق رسائل إعلامية هادفة، ومقصودة بفاعلية وكفاءة عالية، في إطار الفكر الليبرالي الغربي، القائم على المنافسة بالدرجة الأولى، وحرية السوق بالدرجة الثانية. وهنا برز الدور الاقتصادي في صناعة العلاقات العامة بتحقيق المنفعة المادية، ونجحت الشركة بشكل كبير بخلق قبول واسع بشأن المشروبات الغازية، وكأنها مشروبات صحية وخاصة لدى الأطفال الذين تولدت لهم صورة إيجابية بشأن هذا المشروب، ولكن ما زال هذا الافتراض من قبل الكثيرين غير صحيح، برغم نجاح الشركة في "تغيير" صورتها أمام الرأي العام كعلامة تجارية على مستوى العالم كله.
المنظور الأخلاقي في عمل العلاقات العامة، والتسويق، يستدعي- بالضرورة- أن يكون لكل ممارس قيمه الخاصة، ويتوجب عليه التصرف بمسؤولية مع جمهوره، وهذا بالتحديد ما عكسه رونالدو في تصرفه وسلوكه الأخير، فيما يرى خبراء العلاقات العامة في "كوكا كولا"، أنهم لا يفرضون منتجاتهم، بل تقدم الشركة منتجها؛ وللناس والرياضين حرية الاختيار، والقرار بشأن ذلك. ولا يزالون يدافعون عن رعاية "كوكا كولا" للمناسبات الرياضية حول العالم، انطلاقًا من طرح مفاده أن المناسبات، أو المسابقات الرياضية التي ترعاها الشركة تتخذ طابع العالمية، وتخلق علاقة عالمية قيمة وذات ثقافة عالمية مشتركة.
في واقع الأمر "كوكا كولا"- بفضل دعايتها وإعلاناتها وحملاتها الإعلامية- باتت تسيطر على الجمهور بخلق صورة إيجابية
في واقع الأمر "كوكا كولا"- بفضل دعايتها وإعلاناتها وحملاتها الإعلامية- باتت تسيطر على الجمهور بخلق صورة إيجابية، ما يشكل غاية الخطورة، بسبب ما تبذله من جهود إقناعية في الرأي العام العالمي، تؤثر- في كثير من الأحيان- على السيطرة على خيارات الناس وقراراتهم وأفعالهم. وهنا يبرز دور المسؤولية الاجتماعية من قبل الشركة على الناس، الذي يعتبر سقوطًا أخلاقيًا، كونها تقدم مصلحتها الاقتصادية على مسؤولياتها الأخلاقية تجاه "جمهورها". كما أن المنظور الأخلاقي في عمل العلاقات العامة يقتضي بالضرورة احترام الجمهور، وتقديم ما يحتاجه من خلال تحقيق التوازن بين قيم الشركة والاحتياجات الأساسية العامة للمجتمع الدولي. ويجب أن يُظهر السلوك المهني، أساس العلاقة بين الشركة وزبائنها، وعدم تجاهل الآثار السلبية لمنتجاتها، والكف عن إرسال إشارات إيجابية غير مباشرة، حول المشروبات الغازية للشباب. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العلاقة بين منتجات الشركة، وتبنيها للأحداث الرياضية، يعتبر نوعا من أنواع التناقض الكبير، في ظل إثبات العديد من الدراسات الآثار السلبية على صحة الإنسان.
اقرأ/ي أيضًا: ميسي الموهبة.. رونالدو المجتهد
وفي الوقت الذي سعت فيه "كوكا كولا" لتعزيز صورتها وتواجدها في رعاية المناسبات الرياضية، إلا أن علامتها التجارية تعرضت لضربة قوية جراء ما يمتلكه رونالدو من شهرة، جعلته بحد ذاته علامة تجارية عالمية رائدة. فما بنته شركة "كوكا كولا"، منذ عشرات السنوات هزه بـ4 ثوان فقط. ومن المرجح لو سعت الشركة لمقاضاته، فمن الممكن أن تكسب المعركة، كونها- إداريًا وقانونيًا- تمتلك حق الرعاية للبطولة. ولكن إذا ما اتخذت هكذا قرار، أو ردت على موقفه؛ فقد تسوء سمعتها أكثر؛ لأن المكسب القانوني، لا يعني بالضرورة تحقيق المكسب الإعلامي، وهذه مجازفة خطيرة جدًا. ما يعني أن تنتهج سياسة الإغفال إلى حين في إدارة الأزمة وإدارة السمعة التي لحقت بها، حتى تتعافى تدريجيًا من النتائج السلبية التي لحقت بعلامتها التجارية.
اقرأ/ي أيضًا: