في زمن غدت فيه كلمة الحق تعادل في وزنها الرصاص لم يعد لأمثال رياض نجيب الريس (1937 - 2020) مكان، لأن هذه الأرض لم تعد صالحة لهم بعدما لُوثت بالسكوت وبالخذلان. ولى زمن الصحافة التي كانت عناوينها الرئيسية تقلب أنظمة، وأصبح ذلك من الماضي الذي انتسب إليه وكان هو آخر رجالاته.
يرحل عنا الناشر والصحفي السوري اللبناني رياض نجيب الريس وتطوى معه مرحلة كاملة من عمر الثقافة العربية
يرحل عنا الناشر والصحفي السوري اللبناني رياض نجيب الريس وتطوى معه مرحلة كاملة من عمر الثقافة العربية. أجيال بأسرها مدينة لتجربة كبيرة أسّس لها عبر عمر طويل من الالتزام والانحياز للحقيقة ولا شيء غيرها.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل رياض الريس.. حياة في سبيل الحرية
صاحب المشاريع الشجاعة التي أسست لسردية متفردة ومختلفة في زمن قمع السلطة لكل كلمة حق تلوح في الأفق، كانت تجربة المنار والناقد والنقّاد ومشروع الدار منبر كل المثقفين المغيبين والأصوات المقموعة وأصحاب الهامش مما خذلتهم ناصية الأوطان، خيار الانحياز للشعوب كان من مسلمات هذا المشروع ولم يوقفه شيء على الرغم من كل الخسارات المادية التي سببها مقص الرقيب وملاحقة كتابها، حيث منعت إصدارات الدار تقريبًا من كل الدول العربية.
لم تقتصر مسيرة رياض نجيب الريس في كونه صاحب مشروع مثّل منبرًا لكل مثقف عربي، بل تجاوزه إلى الكثير من الإصدارات التي تناولت تحقيقاته الميدانية وأسفاره لشتى بقاع العالم، إذ كان لتحليلاته بصمتها الواضحة، كما أنه غدا مرجعًا مهمًا في الكتابة الصحفية.
كتب عن ظفار وعن تجربة الثورة وتعمق بتفاصيلها، عايشهم واستمع إليهم ونقل إلينا آمالهم، أحلامهم وحكايات بلادهم البعيدة، ولأنه راصد ومستشعر لمسارات الرياح التي هبت على منطقة الخليج فكانت رياح اليمن الجنوبية هي مدخلها والتي تجاوزت علاقته بها المسار المهني إلى أشبه بالصداقات الحميمية إلى رياح الشمال والشرق والسموم تحاكي أحوال أهل الخليج، وتخبرنا عن شعابها ومشايخها وصراع الواحات والنفط فيها، عن المؤامرات والخيانات، عن هوس السلطة وصراع العائلات بالرغم من رباط الدم وصلة القرابة التي تجمعهم، بكتابة عقلانية وشجاعة وصادقة على الرغم من أن التجربة كانت محفوفة بالمخاطر.
ولأن للتاريخ جانب آخر في رحلات رياض الصحفي، فكانت تجربة الانقلاب العسكري في اليونان تستنسخ تجارب الانقلابات العسكرية العربية التي أصبحت تقليدًا متبعًا جلبت الخراب للمنطقة. في براغ كان أول الصحفيين العرب الوافدين إليها بغية رصد تطورات الغزو السوفييتي وسحق التجربة الديمقراطية تحت مجنزرات الدبابات، ليكون شاهدًا على إجهاض حلم الربيع فيها، وكأنه الرائي المستشرف لما ستؤول إليه مآلات أحلامنا بعد أربعين سنه في بلدان عاكستها الأقدار فكأنها استعادة لتلك الأحداث.
لا تحمل ذاكرة رياض نجيب الريس ما شجعه على الانتساب للعمل السياسي والحزبي، بالرغم من أنه كان من أشد المتحمسين والمدافعين عن الهوية العربية المنفتحة والممزوجة بنفس ليبرالي، فالتجارب القاسية في العراق وسوريا المبنية على الحزب الواحد والدكتاتورية والتآمر وتصفية الرفاق وعسكرة المجتمع تركت أثرها في مجمل مسيرته، وجعلته ينفر منها فأكثر من أساء لفكرة العروبة على حد تعبيره هي تلك الأحزاب العقائدية الجامدة.
رحل رياض نجيب الريس في زمن الخيبات السياسية والثقافية والصحفية، زمن الخنوع للممول الذي أصبح يرسم خارطة المشهد الصحفي والثقافي
أمام كل تلك التجارب القاسية والرهانات الخاسرة والأحلام الموءودة لم يكن أمام رياض إلا الانكفاء بعد أن أجبر على التوقف عن العمل الصحفي، إذ أنه صرح لإحدى الوسائل الإعلامية "أنا منبوذ من كل الصحافة العربية اليوم. بعد تجربتي في صحف عدّة صار عليّ حظر. يقولون إن اسمي يسبّب الصداع. التصقت بي صفة الكاتب المشاكس. إنهم يرفضون أن أكتب قبل أن يعرفوا ماذا سأكتب".
اقرأ/ي أيضًا: نجيب الريس.. صقر الصحافة السورية
رحل صحفي المسافات الطويلة، آخر الخوارج، الناشر وليس الطابع كما كان يعرف نفسه، في زمن الخيبات السياسية والثقافية والصحفية، زمن الخنوع للممول الذي أصبح يرسم خارطة المشهد الصحفي والثقافي.
اقرأ/ي أيضًا:
نواف التميمي في محاضرة إلكترونية.. الماكينة الإعلامية وتفاعلات أزمة كورونا