كان الفضول دافعًا للحديث مع الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم (1982)، كما كان الفضول نفسه هو من افتتح الحديث بالسؤال عن الحافز وراء ترجمتها أنطولوجيا "الموت في أرض حرة" لشعراء أفارقة أمريكيين، فأكّدت إن الجواب في "غواية الخيال"، ثم راحت تشرح لـ"الترا صوت"، "في الأماكن التي تضيق بالهويات المضطهدة تتّسع رقع الخيال وتفيض القريحة، ولِشعر الأمريكيّين من أصل أفريقيّ صوت عريض جدًا يحتضن قضايا إنسانيّة وتاريخيّة ومصيريّة، إلى جانب رشاقة التعبير الشّعريّ التي يتميّز بها شعراء من أمثال كلود ماكاي ولانغستون هيوز وكاونتي كولن ويوسف إيمان وغيرهم".
في الأماكن التي تضيق بالهويات المضطهدة تتّسع رقع الخيال
وتسوق غنايم أهم ميزات هذا الشعر، وأولها، بالنسبة لها، نهوضه على أرضيّة فكريّة وفنيّة وسياسيّة شموليّة، فهو شعر ملتزم في مساماته ينضحُ ألمًا وغضبًا من جهة، ومرحًا وخفّة أو حتّى ثقلًا من جهة أخرى. وتشير إلى أننا أمام مستودع هائل من القصائد يتّسع لاستعارات تفوق المدلولات السياسيّة وقضايا الهويّة، كما نجدها عند بوب كاوفمان أو وأليس ووكر وكوينسي تروب وأودري لورد ومايا أنجلو وغيرهم. وتعتقد أنّ هذا الشّعر لم يعانِ يومًا من انكماش ثقافيّ فرضته مرارات الواقع. مؤكدة أن هذا ما يجعله شعرًا صالحًا لكل مكان، يتجاوز محليّته ويخاطب الإنسان بالمعنى المطلق.
وعن نجاح شعراء "الموت في أرض حرة" في مزاوجتهم بين الخطاب السياسي الذي يسعون به إلى خلق مكانة اجتماعية متوازية مع مكانة البييض، وبين الاقتراح الجمالي الذين يسعون به إلى خلق هوية فكرية وأدبية: "المطّلع على هذا الأدب شعرًا ورواية وقصة ومسرحًا ومقالة، سيجد أنّه أمام عالمٍ يطرح مفاجآت ومساءلات حول الهوية والإبداع من الطرفين الذكوريّ والأنثويّ. حتى لا نسطّح الأمور علينا أن نعترف بأن هذا الشّعر ليس فقط محاولة لمقاومة العنصريّة بل يختزن أكثر من ذلك، وربّما العكس، فقد تجد أحيانًا قصائد يسعى فيها الشعراء إلى الاندماج في الثقافة السائدة والتماهي مع "الجلاّد" سعيًا نحو قطيعة مع ماضيها وحتّى جلد الضحيّة لنفسها. وتجد قصائد تنسلخُ تمامًا عن تجربة العنصريّة والهويّة الجمعيّة وتنزع نحو ذاتها المنفردة بخفوت، أو قصائد أثقلتها مشاعر الذنب تجاه ماضيها وتاريخ عبوديّتها، وقصائد أخرى تنبني على وشائج الاستعارة والابتكار والتكثيف الّعريّ. باختصار، نحن أمام شعر حدّيّ، يترنّح بين فراغ وامتلاء، وبين نصر وهزيمة، وبين احتواء وإقصاء".
وردًا على سؤالنا لها كشاعرة بالتحديد، إن كان بمقدور الشعر في وقتنا الراهن أن يحقق ما حققه الشعراء الأفرو أمريكيين في خلق ثورة تحررية، تجيب: "الشعر في راهننا يشبهنا تمامًا، مسنود بحائط آيل للسقوط، يفقدُ صلته بالواقع الهلامي الضّحل، يتخبّط في هويّته، ويخاف على نفسه من "التجيّف" أمام تقليعة كتابة الرواية. هناك تجارب شعريّة كثيرة اليوم في غاية الثراء والأناقة والرشاقة والعمق، لكن ثمة حالة سائدة من اللامبالاة العامّة وفقدان الثقة بين الشعراء والجمهور تُفقدُ هذا الشعر رونقه. لا أدري حقيقة لماذا الشّعر حالة يستلهم فيها الشاعر "المجرّد" ليخاطب العالَم. ربّما هذا سبب من أسباب فقدانه الدّعم اليوم".
الأعمال التي لم يسبق أن انكشف عليها القارئ العربيّ ذات كم كبير جدًا
وعن واقع الانسان العربيّ في الوقت الراهن، ترى غنايم بأن هذا الإنسان يبحث عمّن يخاطب واقعه المهزوم بأدوات الواقع لا بأدوات المجرّد، لهذا، تسجل الرواية الآن انتصارًا كاسحًا لقدرتها على انتهاز فرصٍ كهذه، ثم تضيف: "هناك مؤسسات ثقافيّة تدعم هذا الاتّجاه ماديًا ومعنويًا وتجاريًا. كلّ المعايير اختلفت اليوم، نحن لا نعيش عصر الثورات بل عصر الانكماشات، ولا أظنّ الشعر قادرًا على "بلع" هذا الكمّ من الهزائم ليصوغَ حريّةً كالتي رامَها شعر الزنوج. ما زال الوقت مبكرًا للحديث عن الحريّات".
وحول إن كانت المعايير الفنية والأدبية هي التي تدفع بالمترجم لاختيار كتاب دون آخر، أو إن كانت شهرة الكتاب ومؤلفه من تدفعه إلى نقله، أو يتم الاختيار بتزكية من دار النشر التي تخضع لمتطلبات سوق الكتب.. تلفت غنايم إلى أن "عمليّة انتقاء العمل الأدبي مسألة معمارية دقيقة، فيها مجازفة خطيرة من طرف المترجم والناشر، كل خطأ فيها قد يؤدي إلى سقوط هذه المعمارية".
وعن عملها تقول، "أنا أعمل بحذر وبتؤدة. في مشروعي الترجميّ أبحث عن الأعمال التي لم يسبق أن انكشف عليها القارئ العربيّ، وفي الحقيقة كمّها كبير جدًا. أختار أولاً الأعمال الأدبيّة الرفيعة فنيًا، وليس بالضرورة أن تكون رفيعة لغويًا، أو تلك التي يتوق القارىء إليها، أو تلك التي مرّت بحالة إقصاء قبل قوننتها في الأدب العالمي، أو الأعمال الجريئة التي همّشتها المؤسسة الترجميّة العربيّة زمنًا. إلى جانب ذلك، أعملُ على انتقاء أعمال أدبيّة تحملُ عناوين جذابة تكون قادرة على مغازلة عيون القرّاء. الترجمة واختيار الكتب الجيدة مسألة نسبيّة وخاضعة لذكاء المترجم وثقافته. وعن تدخل دول النشر بالطبع لا بدّ من اختيار دار النّشر التي لها القدرة على الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من القراء والمكتبات، فمسألة التوزيع والوصول لا تقلّ أهميّة عن المنتَج الأدبيّ نفسه. شخصيًا، أنا مرتاحة مع دار النشر التي أتعاون معها، هناك حالة من التناغم والانسجام الفكريّ بيننا واختياراتنا غالبًا ما تكون متطابقة".
صدر لغنايم مجموعتان شعريتان "ماغي: سيرة المنافي"، و"نبوءات"، إلى جانب ترجماتها لأعمال مثل رواية "مكتب البريد"، والمجموعة القصصية "أجمل نساء المدينة" لتشارلز بوكوفسكي، إضافة إلى "كتاب أشعار" وهو مختارت من أشعار جيمس جويس، وكذلك مختارات شعرية لبابلو نيرودا، اوكتافيو باث، أليس والكر، ريتشارد رايت، جاك كيرواك، أودري لورد هارولد بينتر وصموئيل بكيت وأدريان ريتش.
حسنًا أيها الزنوج
أنا، أيضًا
لانغستون هيوز
أنا، أيضًا، أنشدُ من أجلِ أمريكا.
أنا الأخُ الأسود.
يُرسلونني لآكل في المطبخ
عندما يحضرُ الرفاق،
لكنّي أضحكُ،
وآكلُ كثيرًا.
وأصيرُ شديدًا
غدًا،
سأجلس إلى المائدة
عندما يحضر الرفاق.
عندها،
لن يجرؤ أحد
أن يقول،
"كُل في المطبخ".
عدا عن ذلك،
سَيَرَون كم أنا جميل
وسيخجلون—
فأنا، أيضًا، أنشُد من أجل أمريكا
صباح الكاكاو
بوب كاوفمان
تنويعاتٌ على اللحن صباحًا
وعصفورتان تتحرّكان في المدى.
يلوح سجنٌ رماديّ، يغتسل بنورِ الشّمس.
ألسنة كمانٍ، تتهامس.
طبّالٌ، يترنّم، على الأرض،
يحلمُ بضرباتٍ جامحة، وخفيضة،
أيّها الصّباح المنعتق عن صخب المدينة العاصف،
أرجوك،
ابقَ هنا للأبد.
حسنًا أيّها "الزنوج"
جون جوردان
حسنًا أيّها "الزّنوج"
أيّها الزّنوج الأميريكيّون
يا من تبحثون عن الحليب
وتصرخون بأعلى صوتكم
في حضانةِ أرضِ الحريّة:
الدّروب وَعِرَة.
أخبروني من أين لكم صورة
تلك المربيّة الزنجيّة للذكور البيض.
الله غامض ولا يأخذ جانب أحد.
تتفكّرون في أظافر نظيفة ساقين متقاطعتين ابتسامة
حذاءٌ يلمعُ
صليبٌ حول أعناقكم
أخلاقٌ حميدة
لا ضجيج
تفكّرون من سيعطيكم شيئًا؟
اقتربوا أكثر.
من أين أنتم؟
النّجدة
إمامو أميري بركة (ليروي جونز)
أدعوكم يا شعبَ الزنوج
أدعو كلّ شعب الزّنوج، رجالاً ونساء وأطفالاً
أينما كنتم، أدعوكم، بإلحاح، هلمّوا
يا شعب الزّنوج، هلمّوا، أينما كنتم، بإلحاح، أدعوكم،
أدعوكم يا شعب الزّنوج
أدعو كلّ شعب الزّنوج هلمّوا
يا شعب الزّنوج ، هلمّوا
تلك الآحاد الشتائيّة
روبرت هايدن
وفي الآحاد نَهَضَ أبي باكرًا
وارتدى ملابسَه في البرد الذي يسبق الفجر،
وبيدين مشقّقتين آلمتاه
من الكدح في طقسِ أيّام الأسبوع أشعل
النيران المتكوّمة. لم يشكُره أحدٌ يومًا.
كنتُ أفيقُ وأصغي الى البرد يتشظّى، ينكسر.
وفيما الغرفة دافئة، كان ينادي،
فأنهض ببطء وأرتدي ملابسي،
متخوّفًا من الغضب المتواصل في ذلك البيت،
أحادثه بفُتور،
ذلك الذي طرد البرد
ولمّع حذائي الجيّد.
ماذا كنت أعرف، ماذا كنت أعرف
عن واجبات الحبّ القاسية والموحشة.
قبلَ أن أغادر المنصّة
أليس والكر
قبلَ أن أغادر المنصّة
سأغنّي الأغنية الوحيدة
التي أردتُ أن أغنّيها.
إنّها أغنية
عنوانها أنا.
نعم: أنا نفسي
وأنت
كلانا.
أحبُّنا بكلّ قطرة
من دمنا
كلّ ذرّة من خلايانا
جُسيماتنا الخافقة
-أعلام كينونتنا الجريئة-
لا هنا ولا هناك.
قصيدة حبّ
أودري لورد
تكلّمي أيّتها الأرض وباركيني بما هو أغنى
دعي السّماء تسيل عسلاً من شفتيّ
سلاسل جبالٍ
تنتشر على طول الوادي
يقطعها ثغر المطر.
وأنا عرفتُ عندما دخلتها أنّي كنتُ
ريحًا عالية في تجاويف أحراشها
أنامل تهمس صوتًا
تدفّق العسل
من الكأس المصدوعة
المطوّقة على رمح الألسنة
على أطراف صدرها على سرّتها
وأنفاسي
تعوي في مداخلها
عبر رئات الوجع.
نهمةً كنوارس الرّنجة
أو كطفلٍ
أتمايل فوق الأرض
أتمايل وأتمايل
من جديد.