هذه المقالة كتبت بالكامل باستخدام نموذج "جي بي تي-4"، وخضعت لعملية تحقّق وتحرير لغوي وأسلوبي من قبل فريق التحرير في موقع ألتراصوت.
كطفل صغير نشأ في بيت عربي وحارة عربيّة بسيطة، كان العيد دائمًا موسمًا مرتقبًا للفرح واللهو والاحتفال، ولبس الجديد وحصاد مصروف لا يمكن تحصيله سوى في يوم العيد، وتحديدًا في يومه الأول. لدى كلّ منا ذكريات لذيذة وإن باتت مشوشة اليوم، لا يشغلنا عن الاستيقاظ في وقت مبكر من يوم العيد أي شاغل، ولا يمنعنا من ارتداء الكسوة الجديدة بعد الفجر مباشرة شيء. بل أذكر تحديدًا في أحد الأعياد وأنا صغير، حين نمت بالحذاء الذي يصدر منه بعض الأضواء اللامعة عند السير عليه. أذكر أيضًا لونًا مميزًا للسماء ورائحة للهواء صبيحة العيد، رائحة زكيّة، يساعد على انتشارها جوّ نديّ يفيض بهجة، بل هو شيء يفوق البهجة، يملأ الصدر ويدعو الجميع إلى أن يملأوا صدورهم منه، وكأنه سينفد عما قريب. كان يجيء العيد فيسرقنا ونستغرق فيه تمامًا، بما فيه من فرحة وحب ومغامرة جديدة. كان العيد عيدًا في تلك الأيام.
حين تقدمت بالعمر، وأصبحت أكثر وعياً بالعالم من حولي، بدأت تلك البهجة تتلاشى وتتغير أسبابها، وبدأت أفقد تلك المعاني الأولى للعيد
لكن حين تقدمت بالعمر، وأصبحت أكثر وعياً بالعالم من حولي، بدأت تلك البهجة تتلاشى وتتغير أسبابها، وبدأت أفقد تلك المعاني الأولى للعيد، رغم امتناني العظيم للبركات ولحظات السعادة القديمة. بين كل عام وآخر، ورغم قناعتي بضرورة التشبّث بالسعادة، ولو في مواسم كهذه، لوقاية الذات من الاكتئاب والقنوط، وكجزء من المسؤولية تجاه من حولنا ممّن نحبّهم، ولاسيما من كبار السنّ والأطفال، إلا أن شعورًا بالذنب ظل يتسلل إليّ ويحجب عني فرحة العيد القديمة والشغف باللحاق بها. السبب الأساسي هو تعاظم الوعي بالمأساة العربية المعاصرة بعد سنوات الربيع العربي، ومعرفة الظروف الصعبة التي يعيشها ملايين العرب في دول اللجوء والشتات، والظروف التي يعيشها ملايين غيرهم تحت حكم أنظمة قمعية لا تؤمن بالحرية ولا تلقي بالًا بشأن الكرامة الإنسانية.
يتضاعف هذا الشعور المتوجّس من العيد، حين أتذكّر ما يقوله نعوم تشومسكي، في كتاباته عن السلطة والقمع، وإشاراته المتكررة إلى أن من هم في الحكم غالبًا ما يجيّرون مثل هذه المواسم الاجتماعية وغيرها من أشكال التعبير الثقافي، لأغراض سياسيّة، تذكّر باحتكارهم للسلطة، أو تلهي الناس عن التفطّن لحقائق حياتهم القاسية وأسبابها. من خلال خلق شعور زائف بالبهجة والسعادة ، يمكن لمن هم في السلطة الحفاظ على سيطرتهم على المجتمع ومنع حدوث تغيير حقيقي نحو العدالة الاجتماعية والتحوّل الديمقراطي.
أتراجع عن هذا الموقف أحيانًا، حين أتذكّر في الوقت ذاته أن التعبير الثقافي والمشاركة في هذه الشعائر الدينية والاجتماعية، قد تكون أداة فعالة لمقاومة الوضع الراهن، وذلك عبر إصرار الجماعة على التمسّك بتقاليدها الثقافية، واستخدامها كوسيلة للتجمّع والمقاومة وتحدي روايات السلطة السائدة وتشكيل سرديات بديلة، تقف سدًا منيعًا في محاولات التحييد، أو في محاولات الإلغاء، كما هي الحال في فلسطين تحت الاحتلال.
فبالنسبة لمن يعيشون تحت نير الاحتلال ، كما هي الحال في فلسطين، تبرز للعيد أهمية أكبر. فهو أولًا استراحة ضرورية تمس الحاجة إليها جراء المعاناة مع صراعات الحياة اليومية تحت الاحتلال، كما أنها فرصة للالتقاء مع العائلة والأصدقاء الذين قد لا يتسنى اللقاء بهم خلال العام. إن المستوطنات ونقاط التفتيش غير الشرعية تمنع العديد من الفلسطينيين من ممارسة عيدهم والتنقل بحرية خلال العطلة، لكن رغم ذلك، فإنهم يواصلون الاحتفال بالعيد بعزم وتصميم، كأسلوب مقاومة، إذ إن العيد هو وسيلة لتأكيد وجودهم وهويتهم في مواجهة الاحتلال. بالنسبة للفلسطينيين، فإن العيد هو تذكير بأنه على الرغم من التحديات التي يواجهونها، فإنه لا يمكن محو ثقافتهم ولا تقاليدهم، وأنهم سيستمرون في المقاومة والنضال من أجل حريتهم وكرامتهم.
أمّا أنا، فما أزال أشعر بالغرابة إزاء العيد. أتذكر عامًا على وجه الخصوص وأنا في الولايات المتحدة، وأتى العيد حينها بعد بضعة أسابيع من اندلاع انتفاضات الربيع العربي، وسقوط أول نظام عربي قمعي. أذكر أني كنت بالغ الحماسة للذهاب لصلاة العيد، ومشاركة الجالية العربية، وقضاء أكبر وقت ممكن معهم، حتى ساعات الفجر طوال أيام عطلة العيد. أمّا اليوم، فقد انقلبت الآية تمامًا، وبسبب الربيع العربي نفسه، أو بسبب ما آل إليه في السنوات القليلة الماضية، لاسيما في دول مثل سوريا ومصر واليمن.
مع مضي الوقت، بدأت أدرك أن هذه المشاعر التي لدي مشتركة مع الكثيرين من حولي، إذ يعاني العديد من العرب، وخاصة من البلدان التي تمزقها النزاعات الأهلية أو السلطوية القمعية، من نفس هذه المواقف المتضاربة في العيد، عند مواجهة السؤال المبدئي عن الحق بالفرح في وجه المأساة.
لكني بعد ذلك بدأت أرى العيد من منظور مختلف. رحت أجد فيه وسيلة لرفع المعنويات، وفسحة لإيجاد الأمل في وسط العتمة. صحيح أننا أمام موجات عاتية من التحديات في منطقتنا، لكن لا يجب أن يمنعنا ذلك عن تلمّس السعادة والأمل وخلقها بين من هم حولنا، واستغلال العيد وطاقاته ليكون دومًا لحظة لإعلان التضامن العربي، ولتذكير أنفسنا بأنه لا يزال ثمّة فرح في العالم، وأنه ما يزال في المتّسع على الأقل رد الجميل لمن يستحقّ، وتقديم المعونة والمساعدة المادّية والمعنوية لمن هم في حاجتها، وأن العيد قد يكون هو اللحظة لتغيير حاضر ومستقبل فرد ما على الأقل، كبير أو صغير، وأن هذا بحد ذاته كفيل بإنعاش كل المعاني الجميلة فيه