من المحتمل أن تكون صادفتهم في الشارع ولم تعرفهم. ومن الممكن أنك كلّمتهم كلامًا عابرًا في زقاق المخيم ثم مضيت، أو تجاوزتهم دون الالتفاف إليهم جراء احتكاك سريع.
لا أحد سمع عنهم لا صور معلقة لهم على الجدران ولا بوسترات تحاكي ماضيهم ولا ملصقات تعدد إنجازاتهم. ولأنهم من تزعجهم الأضواء، سكنوا الظل واختاروا الصمت واحترفوا وجعه، وقفوا أمام انهيار مرحلة كاملة وتراجع الحلم، شاهدوا تغير المواقع وانتقال الرفاق والأصدقاء للضفة المقابلة، منهم من غادر دون ضوضاء ومنهم ما لا يزال الصمت رفيقه، هم رجال صنعوا تاريخًا وغيروا أحداثًا وبصماتهم سجلت على مرحلة كاملة، كانت أحلامهم كبيرة لكنها لم تكن مستحيلة، لم تُرو قصصهم لكن في غيابهم الأخير تحضر سيرتهم، هم رجال ظل، الثوريون الأنقياء رجال وديع حداد من اختاروا السرية في حياتهم ومماتهم.
بعد انطلاقة الجبهة الشعبية، شكّل وديع حداد نواة قيادة عسكرية، كان الهدف منها تجميع أعضاء الجبهة القادمين من الداخل الفلسطيني وفتح معسكرات لهم
محمد زكي خليل هللو ولد في يافا سنة 1939، نزح مع عائلته إلى دمشق 1947، التحق مبكرًا في حركة القوميين العرب وفيها بدأ مسيرته النضالية في دمشق، انضم الى مركز تدريب كتيبة الفدائيين الفلسطينيين في حرستا وتخرج منها عام 1958، ليلتحق بأول المجموعات العسكرية التي أخذت الحركة بتشكيلها في أول مؤتمر لإقليم فلسطين.
اقرأ/ي أيضًا: جورج حبش.. درس عربي لا ينتهي
بعد حدوث الانفصال بين مصر وسوريا شارك في المظاهرات الرافضة للانفصال وتعرّض للملاحقة من قبل البوليس السياسي جراء نشاطاته، في 18 تموز/يوليو 1963 حاولت مجموعة من الضباط الناصريين بقيادة جاسم علوان تنفيذ انقلاب يستهدف إعادة الوحدة الفورية مع مصر لكن الانقلاب فشل، اتُهم القوميون العرب بالمشاركة في التخطيط لهذا الانقلاب، وشنت عمليات اعتقال ومطاردة لأعضاء الحركة مما اضطر زكي هللو إلى الخروج الى لبنان حيث واصل نشاطه السياسي والعسكري، وهو ما دفع عناصر المكتب الثاني إلى اعتقاله مرات عدة.
بعد انطلاقة الجبهة الشعبية، شكّل وديع حداد نواة قيادة عسكرية بمساعدة أبو على مصطفى والحاج فايز جابر وزكي هللو، كان الهدف منها تجميع أعضاء الجبهة القادمين من الداخل الفلسطيني وفتح معسكرات لهم، لتدريب الكوادر وتأهيلهم عسكريًا وتأمين السلاح والذخائر، ومن ثم إعادة إرسالهم إلى الأراضي المحتلة حيث كان الهدف هو إنشاء تنظيم بالداخل الفلسطيني تقوده خلايا تكون مدربة ومؤهلة عسكريًّا.
في آذار/مارس 1968، تم اعتقال جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية، من قبل المخابرات السورية وكانت التهمة هي محاولة قلب النظام، أثر غياب الحكيم عن هيكلة التنظيم حيث كان الجناح اليساري في الجبهة الذي يمثله نايف حواتمة وبعض الكوادر الطلابية اليسارية تعتبر أن هزيمة حزيران/يونيو 1967 هي هزيمة البرجوازية الصغيرة وأنظمتها الوطنية، وسقوط هذه الأنظمة ضرورة لتتسلم الطبقة العاملة زمام قيادة المرحلة القادمة.
كان هذا يعني على صعيد الجبهة الإطاحة بالقيادة الحالية وصعود قيادة جديدة بديلة لجورج حبش، استشعر وديع حداد خطورة الوضع فرتّب مع أعضاء في الجبهة خطة لهروب جورج حبش ووزعت المسؤوليات وأوكل لزكي هللو بمتابعة هذه العملية السرية ومراقبة كل الأمور المتعلقة بالسجن، من ناحية استطلاع مداخل السجن والحراسات ومواعيد نقل الحكيم إلى التحقيق في مقر المخابرات، الذي أشرف عليه عبد الحكيم الجندي بشكل شخصي.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، قامت مجموعة من الجبهة الشعبية باعتراض الموكب الذي كان. يقل جورج حبش العائد من مقر المخابرات إلى السجن، حيث اعترضت سيارات عسكرية السيارة التي تقل الحكيم وقاموا بتحريره وانطلقوا بسرعة فائقة نحو الحدود اللبنانية وعبروا الحدود، وكان زكي هللو من الرفاق الذين رافقوا الحكيم في تلك الرحلة الى بيروت، إذ كانت الأمور كافةً قد رُتِبت، ومن خلالها انتقل الحكيم إلى مصر للقاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، في حين انتقل زكي هللو إلى الأردن وواصل عمله النضالي واستلم مسؤولياته بجهاز الامن التابع للجبهة الشعبية، كان وديع حداد يفكر بعمل نوعي لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي فأنشأ فرعًا عرف بالمجال الخارجي في الجبهة الشعبية، وكان اختيار الأعضاء يتم وفق ضوابط صارمة، حيث يكون العضو على قدر كبير من الجرأة والشجاعة والدقة والسرية للعمل، وكان زكي هللو أحد أبرز أعضاء الفرع.
في آذار/مارس 1968، تم اعتقال جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية، من قبل المخابرات السورية وكانت التهمة هي محاولة قلب النظام
بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن، انتقل زكي هللو إلى بيروت وواصل العمل بالمجال الخارجي. كفاءته وقدراته المميزة دفعت بوديع حداد إلى تعيينه مسؤولًا عن التدريب والتأهيل العسكري في مخيم جعار قرب عدن، بعد أن أصبح من رجال الدائرة الضيقة لوديع حداد.
اقرأ/ي أيضًا: أنيس صايغ.. أرشيفٌ لفلسطين
توافدت المجموعات الثورية من كل مناطق العالم إلى المعسكر حين أصبح المجال الخارجي ملهم الثوار في العالم، أعد زكي هللو خطة للعمل دخل المعسكر حيث كان النظام صارمًا، وتم تدريب المناضلين على وسائل حرب العصابات من الرماية بالأسلحة وصنع المتفجرات وكيفية التعامل معها كذلك أخضعوا لعمليات تثقيف وتأهيل أيديولوجي وسياسي ونفسي، من هناك تخرّج الثوّار من مختلف الجنسيات وضربوا في عدة أماكن من العالم، في روما وباريس ولندن، في نيروبي وكامبالا ومقديشيو، وكان يمكن أن يكون المهاجم فلسطينيًا أو نيكاراغويًا أو يابانيًا أو المانيًا أو من أي جنسية أخرى .
كان لزكي هللو بصماته على كل المجموعات والثوار ممن تلقوا تدريبات مكثفة، وأصبحوا أكثر صلابة وأكثر مهارة واظهروا قدرات استثنائية، من الجيش الأحمر الياباني الذي امتاز أعضاؤه بالقدرة على الاحتمال، إلى مجموعات بادر ماينهوف الألمانية الذين التزموا الدقة والجدية، إلى مجموعات العمل المباشر الفرنسية، بالإضافة لمجموعات سويدية واسكندنافية، وبعض الإيطاليين والإسبان، والمجموعات الساندنية من نيكاراغوا ومن أمريكا اللاتينية، فضلًا عن المجموعات العربية من الجبهة الشعبية لتحرير ظفار وبعض المجموعات اللبنانية اليسارية.
من أبرز الأسماء التي قدمت إلى المعسكر شاب فينزويلي اسمه ايليتش راميريز سانشيز، الذي سيعرفه العالم فيما بعد باسم كارلوس، وقد أطلق عليه المجال الخارجي لقب سالم، عاش فترة معتبرة هناك وقام زكي هللو بتدريبه على الرماية واستخدام المتفجرات وقد أظهر قدرة من الالتزام والتعلم، كما ساعد عناصر المعسكر في الترجمة لإتقانه العديد من اللغات، يقول عنه مدربه زكي هللو "شاب فنزويلي جاء من بعيد وآمن بقضيتنا، ملامح وجهه تنم عن ذكاء وكان هناك بريق في عينيه".
تولى متدربوا المعسكر الذين أشرف علي تدريبهم زكي هللو القيام بعمليات مدوية، حيث خطفوا طائرات وهاجموا مطارات ومقار في اللد وعدن وعنتيبي وفيينا ومقديشو التي كانت خاتمة عمليات الفرع الخارجي.
في 28 مارس/ أذار من عام 1978، أُعلن عن وفاة وديع حداد مسؤول الفرع الخارجي في أحد مستشفيات برلين الشرقية. وديع أنهك العدو وطارده في كل مكان. بعد أسبوع من الجنازة، اجتمع رفاقه لانتخاب قيادة جديدة للفرع، وبعد نقاش طويل انتُخبت المجموعة التي ستشرف عن العمل بعد رحيل وديع حداد، وتم انتخاب زكي هللو مسؤولًا عسكريًا للفرع، لكن بغياب القائد خفّت وتيرة العمليات التي اقتصرت على عمليات إلقاء قنابل استهدفت أهداف غربية في أوروبا.
كان لزكي هللو بصماته على كل المجموعات والثوار ممن تلقوا تدريبات مكثفة، وأصبحوا أكثر صلابة وأكثر مهارة واظهروا قدرات استثنائي
جندت المخابرات الاسرائيلية كل أجهزتها ومعلوماتها وعملائها لملاحقة زكي هللو الذي كان محل متابعة وبحث طويلين، بسبب مسؤولياته عن تدريب المجموعات التي استهدفت إسرائيل ومصالحها عبر العالم، وفي العام 1984 غادرت الألمانية مونيكا هاس العضو في مجموعة بادر ماينهوف منزلها في ألمانيا بالسيارة ذاهبة إلى مدريد للقاء زوجها الذي لم يكن إلا زكي هللو، وكان الموساد الاسرائيلي بالمرصاد يتتبع مسار رحلتها، وبعد تحديد مكان اللقاء وعند إشارة الضوء التي توقف عندها زكي بسيارته أطلق عميل للموساد النار عليه من سلاح كاتم للصوت وأصابه في رقبته. كانت الإصابة خطيرة ونجا زكي من الموت، لكن تبعات الإصابة سببت له الشلل وأصبح مقعدًا.
اقرأ/ي أيضًا: ضرورة سلامة كيلة.. براعة تخريب إشكالياتنا الرائجة
نُقل إلى عدن وحاولت عائلته أن تقوم بنقله إلى إحدى البلدان العربية ليقوموا على خدمته، ولكن جهودهم باءت بالفشل، بسبب رفض أجهزة الأمن هناك إقامته على أراضيها حتى وهو مشلول، وفي العام 1986 بعد الأحداث الدموية في عدن غادر زكي اليمن واستقبلته الجزائر، حيث أقام في مبنى بحي شعبي جيرانه لا يعرفون حكايته. عاش يغالب العمر والأوجاع جراء الإصابة وتقوم عجوز جزائرية على خدمته دون أن تعرف هويته الحقيقية.
في الظل عاش. يتنقل على كرسي متحرك نتيجة تبعات الإصابة، إلى أن غادر الحياة بتاريخ 29 آب/أغسطس 2012 ودفن في الجزائر.
يتحدث الصحفي غسان شربل عن لقائه الاول مع زكي: "هكذا قرعت باب شقة في الجزائر واستقبلني زكي هللو. كان شديد الحذر في البداية. لم يسبق أن تحدث إلى صحافي. وانتابه القلق حين أخرجت آلة التسجيل. وكان لا بد من تدريبات وتعهد بإتلاف الأشرطة فور تفريغها. لا صورة ولا اسم. وهكذا كان لا بد من إسناد كلام الرجلين إلى من سميته المتحدث. واتضح لي أن خوفه لم يكن يقتصر على الإسرائيليين بل تركز على الأميركيين أيضًا فقد كان على لائحة المطلوبين التي تغيرت أولوياتها بعد هجمات أسامة بن لادن. وبسبب صعوبات النطق الناتجة من محاولة الاغتيال تعددت الجلسات على مدار ثلاثة أيام. انعقدت بيني وبين زكي هيللو صداقة حميمة وكان يضحك حين أحدثه عن "أصدقائي القساة" الذين خطفوا طائرات وزرعوا عبوات. كان زكي هللو شجاعًا ونقيًا".
رحل أبو الزيك، كما كان يحلو لرفاقه أن يلقبوه، وتجربة المجال الخارجي والقائمين عليه لا تزال حبيسة الجدران ويكتنفها الكثير من الغموض والكتمان، ومتروكة للروايات المبتورة والدعاية الإسرائيلية. هذا الإرث الذي واكب تجربة نضالية طويلة هو ملك للأجيال القادمة تراكم عليه لتستمر في صراعها المفتوح مع الاحتلال الإسرائيلي.
اقرأ/ي أيضًا: