ارتبطت العزلة تاريخيًا بالعملية الإبداعية، على اختلاف تصنيفاتها ومسمّياتها، إذ بدت شرطًا لها، وطقسًا من طقوسها الضرورية. ولكنّها خلال الشهور القليلة الماضية، ومنذ نهاية كانون الأوّل/ديسمبر 2019، تحوّلت من شرطٍ للإبداع إلى آخر للنجاة، بعد ظهور فيروس "كورونا" الذي حوّل العزلة من فردية اختيارية كانت مرتبطة بالكتّاب والشّعراء والمُترجمين، إلى أخرى جماعية إجبارية يقصدها كلّ من يودّ النجاة.
التحوّلات الطارئة في معنى العزلة وشكلها والهدف منها، تدفعنا للتساؤل عن الشكل الذي اتّخذتهُ عُزلة المُبدعين
التحوّلات الطارئة في معنى العزلة وشكلها والهدف منها، تدفعنا للتساؤل عن الشكل الذي اتّخذتهُ عُزلة المُبدعين، وعن المُتغيّرات التي طرأت عليها بعد ظهور الوباء المُستجد، وبعد أن بات اعتزال الآخرين شأنًا جماعيًا بعد أن كان رغبة فردية. نُضيف إلى هذه الأسئلة سؤالًا آخر عن تأثير الفيروس على أحوالهم ككتّاب وشعراء ومفكّرين ومُترجمين. بالإضافة إلى: ما الذي أجّلته كورونا؟ وما الذي أعادته إلى المتن مُجدّدًا؟ وهل غيّرت نظرتهم إلى الحياة؟
طرحنا هذه الأسئلة على مترجمتين عربيتين، فكانت الإجابات الآتية.
زوينة آل تويّة: أتشبث بالترجمة أكثر
لطالما تمنَّيتُ أن تُتاح لي الفرصة كي أنعُمَ بعزلة تامَّة فترةً وجيزةً من الزمن، أنصرف فيها كُليًّا إلى الترجمة الإبداعية وأخوضها بكلِّ حواسِّي وجوارحي وبلا انقطاع. ولكن لأننا نعيش في عالم دنيوي ناقص تحكمه نسبيَّة الأشياء ويعجُّ بالمفاجآت والمصادفات، لا تتحقَّق فرصةٌ كهذه إلا لمامًا.
ثمَّ، وكأنما تمخّض الجبل فولد فأرًا، ولكنه فأر شرس على صغر حجمه، جاء "كورونا"، الفيروس الصغير غير المرئي المتوَّجُ بلقب "كوڤيد 19" ليقلب موازين العالم بأسره بين عشيَّة وضحاها، ولم يترك من خيار أمام البشرية جمعاء إلا أن تحتمي في عُقْر دارها، لعلَّ الأرضَ المثقلةَ بالأوجاع تستريح. وإذ ذاك وجدت نفسي أفكِّر كما فكَّر كثيرون أنها فرصتنا جميعًا للهدوء والجلوس للتأمُّل والتفكُّر في أحوال الإنسان والكون وكيف أنَّ هذا الوباء أصاب الجميع دونما تمييز على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو الجنس، ووحَّد كوكبًا بأسره في المعاناة بعد أن فرَّقته الطوائف والحروب والمنافي والتهجير والسياسة، والقائمة تطول.
بالرَّغم من أنني لم أظفر بعْد بتلك الفرصة الذهبية في العزلة التامة للتفرُّغ للإبداع بسبب إكراهات الوظيفة، وجدت الأمر مريحًا جدًّا أن أقضي وقتي كلَّه في البيت وأن أزاول وظيفتي من المنزل دونما حاجة إلى أن أصحو في الصباح الباكر كل يوم لأتجه إلى عالمها المُضجر.
ووسط القلق العام والخوف من هذا الوباء الذي جعل المستقبل أكثر غموضًا، لا أستطيع إلا أنَّ أتشبث بالترجمة أكثر وأراها فعلًا ضروريًّا لمقاومة عبث الوجود، ففي هذه العزلة عمَّق كورونا إحساسي وإيماني بالترجمة وبأنها ملاذ آمن في خضمِّ الأزمات يلغي الحدود ويحترم الاختلاف ويقرِّب الناس بعضهم إلى بعض. ولأنَّ الترجمة ممارسة إبداعية خاصة، فهي تنطوي على شرط العزلة كأساس لإنتاج نصوص إبداعية لا تقل أهمية عن أصلها.
وما أجده لافتًا من أمر الترجمة أيضًا هو أنها تعلِّم التواضع، فما يبذله المترجم من جهد كبير في الترجمة فضلًا عن غيابه ومحو ذاته رغبةً في الإنصات لصوت النص والمؤلف، يجعله أكثر تواضعًا وخشوعًا إزاء إبداعه. ولا بدَّ أن يتجلَّى هذا الأمر على نحوٍ أكبر حين يحطّ وباء بهذا الثقل كلِّه على قلوبنا وكواهلنا جميعًا، فهو يقدِّم إلينا درسًا بليغًا في التواضع ونبذ الغرور، ويخبرنا بأننا لسنا في نهاية الأمر إلا كائنات ضعيفة في هذا الكوكب المترامي، وعلينا أن نوقظ حواسَّنا الفكرية والأخلاقية لندرك أننا متساوون.
وكورونا أيضًا فرصة لإعادة النظر بتأنٍّ في عادات الترجمة وطقوسها وفي لغة المترجم ومعجمه وأسلوبه، لأننا نحن معشر المترجمين كائنات مرتابة، لا ترضى كلَّ الرضا عن ترجمتها، فالترجمة حين تستعصي تبدو "كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً"، تبتعد عنك كلما اقتربت، ممكنةٌ ومستحيلةٌ في الوقت ذاته. هناك أيضًا على الأرفف كتبٌ كثيرة تنتظر القراءة هذا أوانها ليكون المترجم أوسع حيلة وليشحذ فضوله المعرفي وتوقه للبحث والاستكشاف.
وفي عالمٍ لا يكفُّ عن الثرثرة يأتي كورونا خلاصًا لأولئك الميالين للعزلة والتَّواقين إلى التعبير عن أنفسهم بطريقتهم الخاصة. إذ في العزلة يمكن للمرء أن يُخرج أجمل ما لديه. فلتكن هذه العزلة مسرى الحالمين ومحجَّ المبدعين.
وأخيرًا، ولأننا في نَيْسان، حيث ما زال كورونا يُحكِم قبضته على عنق العالم، ولكي لا يبقى نيسان في ذاكرتنا "أقسى الشُّهور"، أحبُّ أن ألوذ إلى صوت فيروز الملائكي إذ يدعونا إلى نيْسان آخر آتٍ أكثر رحمةً ولطفًا وجمالًا: "بُكرة بيجي نيسان يسْعدنا، وع تلال أحلامُه يبعدْنا، مِنْتِيه شِردانين ع دروب مخضرِّين، وأرض الهوى والحُب موعدنا".
أماني فوزي حبشي: إننا سريعو العطب
تحتاج الترجمة، بالنسبة لي إلى العزلة، ولكنني أحتاج دائمًا إلى التفاعل المباشر مع الأشخاص، وكنت أستمتع بنوع من التوازن بين العزلة واللقاءات. العزلة الجماعية بالنسبة لي محتملة لأنني أعيش مع عائلتي. المشكلة في هذه العزلة الجماعية أنها عزلة يشوبها الترقب والقلق والخوف بل والألم أيضًا. فأحيانًا يختار المرء أن يعتزل ليراجع حياته، وهو ما أسميه عزلة سلمية، ولكن ما نعيشه الآن هو عزل جماعي إجباري وتوتر عالمي. فنحن لسنا في عزلة بل نقضي أغلبية اليوم في متابعة ما يحدث حولنا، البحث عن مخرج ما من مخاوف فُرضت علينا، نحاول السؤال على أحبائنا وبالتالي تغير قدر ما من الهدوء النفسي الذي أحتاجه عادة للتركيز فيما أفعله، وتضاعف التواصل الاجتماعي رغبة في الاطمئنان على الآخرين أو الرد عليهم لطمأنتهم علينا. فأصبح التركيز أقل وليس أكثر بالتأكيد.
حاليًا لدي بالفعل ترجمتان أحاول الانتهاء منهما، وممتنة لهذا كثيرًا، لأنه على الرغم من كل الظروف، وتعطل التزامات أخرى كثيرة، ما زال لدي ما يمكنني إنجازه. أعتقد أن ما أفعله الآن هو أنني أقضي وقتًا أطول في متابعة أخبار إيطاليا وما يُكتب في هذه الفترة عن الأدب الإيطالي والترجمات أيضًا، وأمنح وقتًا أطول للعناية بصفحة "المقهى الثقافي الإيطالي" التي أشرف عليها مع الزميل معاوية عبد المجيد. وفي الوقت نفسه أحاول منح بعض الوقت للبحث عن أعمال يمكن ترجمتها في المستقبل.
من الأشياء التي اعتدتُ عليها هي محاولة كتابة وتدوين مشاعري حيال ما يحدث، وأعتقد أنني ألجأ لهذه الحيلة كثيرًا في محاولة لتهدئة الأفكار الكثيرة والتعامل مع الأزمات بشكل عام. ولكنني حاليًا أحاول أيضًا أن أتعلم كيف أضيف الترجمات على اليوتيوب لمحاضرات أجدها تستحق الترجمة. كانت هناك بالطبع خطط سفر تأجلت الآن لأجل غير مسمى.
أمّا بخصوص ما أضافته الأزمة الحالية، ربما أكدت على بعض أفكاري ورؤيتي للحياة ولم تغير فيها الكثير، فكرة أننا نستطيع أن نعيش بأقل الأشياء الممكنة، وإن الاكتفاء فضيلة غالية مُنقذة في معظم الأوقات. وعلى الرغم مما ظهر من هلع شرائي وأنانية لدى بعض الناس إلا أن ما حدث جعلنا نشهد أيضًا قدرة البعض على العطاء والتضحية التي، في رأيي، لا يمكن للبشرية الحياة دونهما، وأن التكافل الاجتماعي، الذي ربما يكون ما ينقذ مجتمعاتنا العربية من ثورات أعنف من الثورة الفرنسية في زمنها، هو ما يميزنا كبشر وهو السبيل الأكيد للنجاة.
جعلتني الأزمة أرى بشكل أوضح كيف أننا كبشر سريعي العطب، شديدي الهشاشة، وعلينا أن ندرك حدودنا ومحدوديتنا، وأن نعرف أهمية الآخرين في حياتنا، وأنه على الرغم من أننا نعيش في عزلة مفروضة علينا، وتباعد اجتماعي مطلوب، إلا أنه لا سبيل للخروج من الأزمة، أو الاستمرار على قيد الحياة من دون تعاون فيما بيننا، وتواصل. والذي ظل ثابتًا لدي هو أن الموت ليس هو نهاية القصة، بل هو بداية قصة أخرى أجمل بكثير، ما زلت أتطلع إليها.
عالم ما بعد الكورونا، بخلاف ما سيعانيه من أزمات اقتصادية حادة وأوقات عصيبة كما يرى الجميع، سيكون، ربما لفترة، عالم لقاءات وتجمعات، ولكنه سيكون عالم ما بعد الصدمة أيضًا، شبيهًا بعوالم ما بعد الحرب، يحاول الجميع فيه جمع شتات ما تحطم وترميمه. وأتمنى أن يكون الأغلبية مدركين لهذا، ومدركين أيضًا كمية الألم والفقد والمعاناة التي سيعاني منها الكثيرون، وسيكون علينا جميعًا التعامل معها وكما تعاوننا في العزلة لكي نتجاوزها، أتمنى أن نتعاون أيضًا لتجاوز الأزمة القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: