صُبغت الساحات في لبنان بالعقد الأخير بنكهة حزبية وطائفية بحتة. إذ إن الوفود التي دلفت إليها في السنوات الأخيرة كانت تهدف إلى استحصال غايات سياسية أو للمطالبة بحقوق على شاكلة مناصب وزارية أو حكومية. وقد استعملت الساحات من قبل الأحزاب اللبنانية "لتكييل" جماهيرها. كانت تطمح في تعبئة الساحات لحشد مؤيديها بغية الوصول إلى رقم "المليون". حتى صرنا لا نستبعد وجود علاقة اعتباطية بين الساحة ورقم "المليون". هذا الرقم الذي شكّل هاجسًا لهذا الحزب أو ذاك لاقتناص اللقب من منافسه، لقب "الحزب الأقوى". "مليونية".. يا له من سحر!
قلّما استقبلت الساحات اللبنانية اعتصامات مطلبية وتحركات حقوقية من دون دعوة من أحد الأحزاب
في الواقع، شهدت الساحات في لبنان منذ العهد العثماني وحتى اليوم، سلسلة اعتصامات مطلبية، إلا أنها لم تستطع يومًا خلق التغيير المناسب. ولم تتمكن من مواكبة "الربيع العربي" في البلدان الأخرى. ظلّت الساحات أحادية. مجرّد مكان اجتماعي يتلاقى فيه فئات المجتمع الواحد. ويجتمع فيها أبناء البيئة الواحدة أي تلك التي تنتمي لثقافة حزبية واحدة.
وكان تاريخ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، تاريخًا مفصليًا. الانقسامات المذهبية والطائفية أصبحت واضحة. كذلك الفرق السياسية أخذت الضفة التي تميل إليها. ترسّخت عقلية الجماعة والجماعة الأخرى. وجرّاء هذه التغيرات وما تبعها من تداعيات في كل المجالات، وجد اللبنانيون في الساحات مكانًا لترسيخ هذه الانقسامات أكثر، ومنبرًا لإطلاق الرؤية الجديدة التي يتبناها هذا الحزب أو ذاك، أو مكانًا يجدّدون فيه الولاء لقائدهم الحزبي أو الديني. فكانت تُطلق الصرخات التي يختصرها أصوات الزعماء في خطاباتهم المباشرة، وإعلاء الشعارات والأعلام الحزبية. وفي أحيانٍ كثيرة استخدمت في توجيه الرسائل الملغومة والاتهامات للفريق الآخر. بمعنى آخر، كانت تستغل في "النكايات"، ووسيلة " للتزريك" أو استفزاز الفريق الآخر بالحشد الجماهيري "المليوني". هذا الحشد وإن لم يكن يلامس عدده المليون، فإن الوسائل الإعلامية ستتكفل بتضخيم المشهد حتى يضمحل الشك عند المشاهد.
إذًا، كانت الساحات في لبنان على مدى زمن مكانًا للمطالبة بمكاسب سياسية. قلّما استقبلت هذه الساحات اعتصامات مطلبية وتحركات حقوقية من دون دعوة من أحد. ونشدّد هنا على "من دون دعوة من أحد". لم تعاصر الساحات في لبنان أي فورة تلقائية للبنانيين أو انتفاضة فجائية على الظلم الذي يتعرّض المواطن اللبناني إليه. كانت هذه الاعتصامات والاحتجاجات تتم بدعوة وتخطيط مسبقين من قبل الأحزاب والقيادات الدينية. اللهم إلا التحرك الذي جرى للمطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب. حينها، لم تقتصر الاعتصامات والإضرابات على المستفيدين من السلسلة فقط، بل شارك فيها كل المؤيدين والداعمين لإقرارها. مشهد هذه التحركات أشعل الحماس في نفوس اللبنانيين، سرعان ما أخمده التواطؤ السياسي والتجاذبات الحزبية التي اتفقت على إنهاء حالة "حنا غريب"، أو إخماد الحراك الشبابي الأخير.
اليأس يحاصر الساحات
غلوب الطابع الحزبي في الساحات قابله حراك مدني لعدد من منظمات المجتمع المدني التي تتسم بالضعف نوعًا ما. هم يعترفون بذلك. لأن ذهنية اللبنانيين الملفوفة بالتبعية الحزبية والطائفية متجذرةً إلى أقصى الحدود. إذ إن هذه التحركات الخجولة من إسقاط النظام الطائفي إلى التحركات الرافضة للتمديد للمجلس النيابي والحراك الأخير وغيره، تمكنت من ملاحظة هذه التحركات المنشقة عن الأحزاب والطوائف. لكن الأخيرة، لم تستطع سوى تسجيل مواقف رافضة ومعارضة لم ترق إلى مستوى تهديد السياسيين والضغط على القيادات السياسية. نقول هذا آسفين لعدم جدوى هذه التحركات في الساحات. الأمر الذي كان سببًا في هرم الساحات في لبنان، وفي بيروت تحديدًا. صغرت رقعة اتساعها للمواطنين. يأست لعدم استقبالها شباب يسعون نحو التغيير الجذري، وخجلت من هؤلاء القلة الذين نصبوا الخيم على أرضها معترضين. خجلت لأنها لم تستطع أن تستقبلهم لوقت طويل. الساحات في لبنان يائسة، حالها كحال شبابها وسكّان هذا البلد.
ثورة 22 آب
بين ليلة وأخرى، استيقظ اللبنانيون والنفايات تغمرهم بكل ما في الكلمة من معنى. وحاولت الدولة إخفاء عجزها في إيجاد الحل بنقل النفايات إلى مناطق بعيدة عن بيروت. الأمر الذي أغضب اللبنانيين. ومن ساحات العالم الافتراضي، إلى ساحات العالم الواقعي. خرج اللبنانيون إلى ساحة رياض الصلح للاعتراض، فثاروا بدون أي محرك حزبي بعد أن وجدوا أمامهم السياج الشائك. لم يفهم المعتصمون سبب خوف السلطة من الاعتراض على النفايات.
في اليوم التالي، عززت السلطة من إجراءاتها الأمنية، استقدمت عددًا أكبر من العناصر الأمنية، أغلقت مداخل ساحة النجمة التي تستقبل المجلس النيابي ووضع جدار عازلًا استخدمه اللبنانيون في الرسم. فوجدت هذه الساحة نفسها منفيةً ووحيدة بينما الساحة التي يفصل بينها شارع فقط تستقبل تضج فيها الحياة بعد قدوم المتظاهرين والمعتصمين. ارتبكت الدولة، وظهر ذلك من خلال استقدامها للجدار العازل، ثم لتزيله في اليوم التالي. لم تعرف وقتها كيف تتعامل مع هذه التحركات الجديدة. لأن الدولة عاصرت تحركات حزبية إلا أنها لم تتعامل مرةً مع اعتصامات مطلبية لا يقودها أي زعيم.
في 22 آب/أغسطس خرج اللبنانيون إلى ساحة رياض الصلح للاعتراض فثاروا بدون أي محرك حزبي
اللافت في ساحة رياض الصلح المحاذية للقصر الحكومي أنها صغيرة، لا تتسع لعدد كبير من الجماهير بينما تفريعات الطرق حولها تمتد لتصل إلى زواريب مغلقة بسبب التشديدات الأمنية. أما في ساحة النجمة، فهي مغلقة ولا يسمح لأحد بالاقتراب وإزعاج سيد القصر ورعيته الموظفين، لذا لا يسمح لغير السائحين الأجانب أو المسالمين بالتنزه في هذه الساحة التي تتماهى مع الساحة الفرنسية في باريس. بالنسبة لساحة الشهداء، التي تتميز بمساحتها الكبيرة.
عيبها الوحيد هو بعدها عن قصور المسؤولين، أي أنهم لا يستطيعون مشاهدة الجماهير إلا عبر التلفاز وهذا آخر ما سيفعلونه طبعًا. يوم السبت 30 آب، موعد التظاهرة الكبيرة التي استقبلت الآلاف من الغاضبين اللبنانيين على الوضع الأخير الذي حلّ بالبلاد، سمحت الدولة للمتظاهرين بالاعتصام في ساحة الشهداء، هذه الساحة التي تجري فيها أعمال صيانة، ومساحة كبيرة منها مغلقة بجدران خشبية كانت عائقًا أمام افتراش المتظاهرين للساحة بأكملها، فامتدت الأعداد إلى الطرقات المحاذية. أما في رياض الصلح، فكان التأهب والترقب سيد الساحة من قبل القوى الأمنية التي استقدم عدد كبير منها في يوم التظاهرة.
هذه الاستعدادات والإجراءات الأمنية، إن دلت على شيء. دلّت على خوف السلطة من الشارع. هذا الشارع، وهذه الساحة التي تستقبل للمرة الأولى وفودًا وأعدادًا هائلة تداعت للاعتصام من تلقاء نفسها. رفضت دخول الأحزاب على الخط. نبذت كل رئيس حزب يدعم مطالب المتظاهرين، لأنهم يعلمون جيدًا أنهم سبب الطامة الكبرى. هم ونظامهم المركب الفاسد.
لمرةٍ وحيدة في تاريخ لبنان، لا يجد المسؤولون من ينطق باسم المتظاهرين، لم يجدوا مفتاحًا للوصول إلى المتظاهرين سوى العنف. خافت الدولة اللبنانية من التحرك لأنه تلقائي، يتسم بالغضب. رأت في وجوه المنتفضين غضبًا على الأحزاب وعلى الحالة التي وصلوا إليها بسبب قياداتهم. للمرة الأولى، ترك اللبنانيون طوائفهم جانبًا، اغتسلوا من الحساسية الحزبية التي التصقت بجلودهم منذ زمن طويل. وجدوا أن مطالبهم تتأتى من خلال النزول إلى الساحات، وليس أي ساحة، ساحة قريبة يخافونها. فكانت رياض الصلح. للمرة الأولى الملايين والأولوف تدعو نفسها بنفسها للحشد بدون أي دعوة من فلان.
هذه الساحة أنتجت ثقافة جديدة، ثقافة قدمت من كل المناطق اللبنانية، خليط لثقافات متنوعة أنبتت ثقافة جديدة لم يعهدها لبنان واللبنانيون قبلًا. ثقافة عريضة وشمولية، بُنيت من أناس يختلفون في ثقافاتهم الحزبية والسياسية ليولدوا ثقافة إنسانية تحكي عن حقوق يجب الحصول عليها بدون رعاية هذا الحزب أو الزعيم. هوية جديدة للساحات مع شطب الدلالات الحزبية، السياسية والدينية. هوية مدنية، لكنها سُحقت.
اقرأ/ي أيضًا:
في لبنان قل لي ما اسمك أقل لك ما طائفتك
تمساح لبناني بجواز سفر بريطاني!