ألتر صوت – فريق التحرير
"الحارس في حقل الشوفان" هي كلّ ما أنجزه جيروم ديفيد سالينجر في حياته الممتدّة على نحو أكثر من 90 عامًا، لم تُصادفه فيها حكاية تستحقّ الكتابة أكثر من روايته الشهيرة هذه. ولكنّه، في المقابل، لربّما يخفي شيئًا؛ هذه ما يعتقده المهتمّين بحياة الروائي الأمريكيّ، مؤكّدين أنّه كان يكتب، ولكنّه أخفى ما كتبه.
سالينجر: "أكتب لنفسي، وأريد أن أكون بمفردي كليًا لأفعل ذلك على أكمل وجه"
سالينجر نفسه مدّ مقولةٍ كهذه بشيءٍ من المصداقية، حينما أدلى بتصريح لصحيفة "بوسطن صنداي غلوب" في ثمانينيات القرن الماضي قال فيه إنّه يحبّ الكتابة: "أصدقكم القول إنّني أكتب بانتظام، لكنّني أكتب لنفسي، وأريد أن أكون بمفردي كليًا لأفعل ذلك على أكمل وجه".
اقرأ/ي أيضًا: رسائل همنغواي.. المواد الخام لأدب عظيم
مقولة كهذه ستفتح الباب على مصراعيه لأسئلةٍ لا تبتعد عن فكرة إن كان قد كتب شيئًا ما بعد روايته، ولكنّه فضّل عدم نشره، بما أنّه كان يكتب بصورة يومية مُنتظمة. أم تُراه فضّل إبقاء روايته هذه التي صنعت شهرته خارج حدود بلاده، أي "الحارس في حقل الشوفان"، وحيدة تقريبًا، لأنّ جيروم ديفيد سالينجر أتبعها بعد فترة قصيرة من نشرها بداية خمسينيات القرن الماضي، ببضعة قصص قصيرة لا ترقى لمكانة الرواية، عدا عن أنّها لم تكن كافيةً لإشباع رغبة قرّائه الذين ظلّوا بانتظاره، يُطالبونه برواية ثانية، وربّما ثالثة، غير أنّه اكتفى برواية واحدة فقط.
هكذا، تبدو حياة الروائي الأمريكيّ إذًا، بناءً على ما تنطوي عليه من أسرار وألغاز لا بدّ منها في حياة كاتب وجد نفسه فجأة متورِّطًا بالشهرة ما إن نشر روايته الأولى، مثيرة وغامضة، وأرضًا خصبة تستدعي الحفر فيها، ومطاردة المعاني الهاربة مما نعرفهُ عن سالينجر الذي رأى في العزلة خلاصه من متطلّبات الشهرة أو ما وصفه هو نفسه بـ"متمِّمات العملية الإبداعية"، مُفضّلًا العزلة في منزله في بلدة "كورنيش" الواقعة قي ولاية نيوهامشر على صخب الشهرة الفارغة لجهة المضمون، وإذ به يمضي أكثر من نصف عمره مُدافعًا عنها، العزلة.
ولأنّ السّر، وفقًا لفلسفة الفرنسي بول ريكور، هو ما لا يُمكن للإنسان فهمه. بينما يكون اللغز سرًّا في متناول اليد، وضمن نطاق السيطرة القائمة على المنطق تحديدًا؛ اتّجه ديني ديمونبيون في كتابه "سالينجر في حياته الحميمية" الذي نقلته (دار المدى) إلى اللغة العربية حديثًا، ترجمة زياد خاشوق، نحو تحديد ملامح بعض أسرار حياة الروائي الأمريكي، متنازلًا، عن قناعة تامّة، عن فكرة الوصول إلى جوهرها، وسبر أغوارها، وتقديمها بصورتها الكاملة أيضًا. ولكنّه، بدلًا مما ذكرناه، يأخذ على عاتقه مهمّة إضاءة ألغازه، باحثًا خلف ما هو ظاهر ومكشوف من حياته. هكذا، جاء كتابه، في أحد جوانبه، سيرة ذاتية لجيروم ديفيد سالينجر.
وفي جانبه الآخر، تحقيق صحفي امتدّ على نحو أكثر من عشر سنواتٍ من العمل والبحث وإجراء المقابلات واقتفاء أثر مراسلاته الغرامية، وكلّ ما يُساعد على تحرير الصورة الباطنية أو المخفية له، ووضعها في مكان الصورة التي يعرفها قرّائه.
أصغى همنغواي لسالينجر طويلًا، ليخرج بعدها بمقولته الشهيرة: "ثمّة موهبة حقيقية في أعماق هذا الشاب"
هكذا، يضعنا ديمونبيون أمام صورة مُغايرة، نسبيًا، للصورة التقليدية للروائي الأمريكيّ الذي نتعرّف إليه عاملًا في مسلخ عائلته في بولندا، بلد والده وأجداده أيضًا. كما يضعنا في مواجهة تفاصيل تلك المرحلة التي هي مرحلة المراهقة، ويُخبرنا بأنّه عاشها خائفًا مما هو قادم، أي "سن الرشد" الذي يصفه بأنّه عملية استبدال "أنا" الإنسان الأولى، بـ "أنا" جديدة، مفروضة بالقوّة عليه. وعلى مقربة من بولندا، نتعرّف إلى جيروم ديفيد سالينجر جنديًا في الحرب العالمية الثانية، منخرطًا في صفوف الجيش الأمريكي الذي عمل به مستجوبًا للأسرى الألمان. بالإضافة إلى مشاركته في "إنزال النورماندي" سنة 1944، ومسعاه للقاء مواطنه الروائي الأمريكيّ إرنست همنغواي الذي كان سائقًا لسيارة إسعاف في الجيش الأمريكيّ.
اقرأ/ي أيضًا: 5 مقالات من أشهر ما كتب ديفيد فوستر والاس
هناك، وعلى هامش المعارك الدائرة حولهما، أصغى همنغواي لسالينجر طويلًا، ليخرج بعدها بمقولته الشهيرة: "ثمّة موهبة حقيقية في أعماق هذا الشاب".
اقرأ/ي أيضًا: