في بحث المرء الدائم عن الوطن، يعثر عليه من حيث المبدأ في البداهة، بداهة المكان أو الحيّز الجغرافي الذي شاءت الظروف أن يستقر فيه أو يستوطنه بقصد استثماره وتوظيفه على النحو الذي يضمن له بقاءه.
لا يصير المكان في الشرط الإنساني وطنًا إلا إذا ما تم تملكه من قبل الإنسان بكل جوارحه
العيش الإنساني أو البقاء في هذا العالم ليس معطى طبيعيًا، أو تحصيلًا لحاصل كما يُظَنُّ، بل ثمرة صراع الإنسان ضد مخاوفه، خوفه الأزلي من الجوع الذي قد يحيله في أي وقت إلى عدم كلي، وخوفه من الآخر بصفته عدوًا محتملًا أو دخيلًا طارئًا على الحمى، الذي قد يتحول في حالة انفعالية ما إلى مستوى سارق لحياة، أي كقاتل أو سارق لقوت، أي كغازٍ.
اقرأ/ي أيضًا: عباس النوري متصالحًا مع أكاذيب غيره
لا يصير المكان في الشرط الإنساني وطنًا إلا إذا ما تم تملكه من قبل الإنسان بكل جوارحه، على نحو كلي، أي الاستيلاء عليه نفسيًا، سواء عبر تحويره أو تأثيثه بواسطة العمل بوصفه جهدًا موجهًا لتحقيق غاية أو هدف سبق أن كان له وجود مسبق في الذهن، فعلاقة الفلاح بحقله هي علاقة نفسية من الطراز الأول، كون عملية فلاحة الأرض من حيث الجوهر هي فكرة الفلاحة ذاتها، قبل أن تصير واقعًا أو ممارسة، يجري عليها في ذلك ما يجري على كل خطة أو عملية من إغناء أو تعديل أو استبدال، ففي الفلاحة لا يضع الفلاح في حقله بذورًا ويمضي بقدر ما يضع في كل واحدة منها نفسه على نحو شامل. كل بذرة هي حصيلة هذا الكم الوافر من عقله وعاطفته ومهارته الجسدية.
من الصرخة الأولى التي أطلقها المحتجون السوريين في أزقة شوارع دمشق القديمة، إلى الانتفاضة الشعبية العارمة لسكان مدينة درعا وما حولها، وصولًا إلى الطوفان البشري الذي اجتاح معظم القرى والمدن في سوريا؛ كانت الموجة الروحية الناظمة لهذا الحشد الثوري واحدة، اصرار منقطع النظير على استعادة الوطن السوري من يدي النظام الأسدي السلطوي اللصوصي، والقطع مع حالة الاغتراب اليومي الدرامي عن الوطن الأم، ذلك الاغتراب الذي كان يدفع صاحبه لمعايشة شعورين متضادين، يتمثل الأول بحالة الحب والافتخار بما تنتجه يداه، سواء كان ذلك المنتوج مالًا قد حصل عليه من حقل أو ورشة لتصليح السيارات أو بيت، فيما يتمثل الثاني بحالة شديدة من التنكر لذك المنتج كما لو كان عارًا أو شرًا مستطيرًا أو لعنة، وما ذلك إلا لمعرفته المسبقة بنهب جزء كبير منه وتحويله إلى جيوب ممثلي السلطة الأسدية بكل تلاوينهم.
الشعار الذي رفعه السوريون في ثورتهم ضد نظام الأسد والمتمثل بـ "الله، سوريا، حرية وبس"، لم يعنِ في جوهره سوى الرغبة بالقطيعة مع حالة الاغتراب، الذي عمقتها ممارسات النظام اللصوصي المتمثلة بالتناقض الحاد بين شعور السوريين تجاه وطنهم بالحب من جهة، ورغبتهم العارمة الدفينة بمغادرته إلى الأبد من جهة أخرى.
في معركة السوريين لاستعادة وطنهم من بين براثن سلطة آل الأسد الممسكة بتلابيب وتفاصيل حياتهم اليومية حدّ الهوس، أشهروا في وجهه مفهوم الله الكلي القدرة والعظمة والكمال ليكون حدًا أو قيدًا أو سقفًا على سلطته التي تتوهم حكم السوريين "إلى الأبد" بمنطق العبد والسيد.
في مظاهرات 2011 تعلم السوريين كيف يتصالحون مع وطنهم الذي حوله بيت الأسد مزرعةً خاصة بهم، وكيف يستعيدونه بكل بساطة عبر أصواتهم وأقدامهم التي لم تلقِ بالا للرصاص والموت الأسديين في طريقها الصاعد إلى الحرية. في ربط السوريين بين الوطن والحرية استعادوا ببساطة جنتهم المفقودة، تلك الجنة التي تدفع بصاحبها للوقوع في حبائل غوايتها الموصلة إلى حد الفناء فيها، دون أي اعتبار لشكلها أو نوعيتها التي قد تشبه في أعظم تجلياتها، الصورة التي قد يرسمها أحد ما لبيته الذي يرغب بأن يتملكه بروحه، أي بعمله.
أشهر السوريون مفهوم الله الكلي القدرة والعظمة والكمال ليكون حدًا أو قيدًا أو سقفًا على سلطة الأسد
إزاء استعادة السوريين لوطنهم عبر الله والحرية والأقدام العارية، حاول أبناء النظام العبودي الأسدي بكل تجلياتهم التنظيمية من شبيحة ومليشيا دفاع وطني وأجهزة مخابرات وجنود مأخوذين بالعظمة الإلهية لذات الأسد المتعالية؛ أن يعيدوا الناس الطالعين إلى حريتهم إلى بيت الطاعة الأسدي سواء عبر قتلهم أو التشنيع عليهم، رافعين في وجههم تلك التميمة القبيحة لسلطة آل الاسد "الله، سورية، بشار وبس"، متخذين من الله سندًا لتبرير حكم مستبدهم الكبير بشار الأسد، متكئين في ذلك على القول الفقهي الشائع الذي يجيز خضوع الناس لمستبدهم الشرير، لا لشيء غير كونه صاحب لشوكة، أي قوة، "من قويت شوكته وجبت طاعته".
اقرأ/ي أيضًا: نضال سيجري.. سيرة عامل في الفن
في الثلاثية السابقة التي يتم بها توظيف الله في خدمة المستبد الذي يقوم بإخضاع غيره من الناس، يتفرغ أنصار الأسد لرفع زعميهم إلى مستوى الوطن، حيث تضيع الحدود بين بشار الفاني والناهب لسوريا، وبشار الأسد المانح الحياة لكل أبنائها السوريين، وهو أمر لا يستقيم تصديقه أو فهمه إلا إذا تعرفنا على فلسفة الغزو التي يتلطى خلفها الأسد كصاحب مُلك أو دولة، وفق المفهوم الخلدوني لوضعية الغازي، الذي يصير بعد إمساكه بالسلطة مَلكًا نبيلًا يوزع عطاياه على مريده وأنصاره، ويصير البلد الذي سطى عليه تابعًا لاسمه العظيم وفق العبارة المخاتلة "سوريا الأسد"، حيث المجاز يعكس عمق سطوة آل الأسد المستبيحة لوطن السوريين وناسهم.
طيلة فترة الأزمة، المؤامرة، المحنة، وفقًا لمنطق أنصار الحكم الأسدي المأخذوين بمنطق المؤامرة، الانقلاب، التمرد، ظل الأسد وأنصاره يصرون على احتكار المصادرة على الوطن من خلال تحديد طبيعة الأشخاص الذين يحق لهم شرف الانتساب إليه من عدمه، فالمحتجون السلميون وفق عرفهم هم خائنون لوطنهم، أو على نحو أدق خائنون لولي نعمتهم أو زعيمهم الملهم بشار، دون أن يُظهر لنا هؤلاء الجلادون صك العبودية التي وقعه السوريين مع بشار الاسد وأبيه، الصك الذي تعهدوا بموجبه بعدم التمرد على سلطته المطلقة المقررة لمصائر البشر وممتلكاتهم، وهو الأمر الذي سيتم استدراكه لاحقًا عبر ما يسمى بصكوك المصالحة الوطنية.
لا تضيف صكوك المصالحة "اللاوطنية" التي تفرض على كل راغب بالرجوع للعيش في ظل دولة الأسد المملوكية أيّ جديد على وضعيته السابقة، بوصفه عبدًا مطالبًا على نحو عميق بالطاعة العمياء لجميع السلطات التي تقوم بهدر كرامته على الطالع والنازل، سوى مقدار شحنة الذل التي يجب تحميلها إياه من جديد، عبر اقراره بحرمة الاقدام بالتمرد على سلطة آل الأسد تحت أي ظرف أو حجة. كما إقراره بالدخول في بيت الطاعة الاسدي عبر تحوله إلى مخبر رخيص عن كل شخص في محيطه السكني، بما فيهم أفراد عائلته المقربون وأصدقاؤه الحميمون في حال قرروا المشاركة بالتمرد عبر أي مظاهرة مناهضة.
يشعر أنصار الأسد في الفترة الحالية من عمر تمرد السوريين على سلطتهم الأسدية بالمزيد من الثقة بالنفس
وما كل ذلك حتى يثبت مقدار توبته النصوحة التي ستظل عرضة للشك والتمحيص وعدم التصديق بها إلى الدرجة التي قد تودي بصاحبها، إما إلى التصفية الجسدية، كما حدث مع رئيس الشرطة الحرة في درعا الذي تمت تصفيته ميدانيًا من قبل أحد الحواجز الأمنية بعد توقيعه على صك المصالحة بأسبوع، أو الاعتقال ومن ثم تنفيذ عقوبة الإعدام بحقه كما حصل مع سمير المنشار، أحد القادة الميدانيين للجيش الحر سابقًا في منطقة حرستا بدعوى الاقتصاص منه جزائيًا، جراء دعوة مدنية قام برفعها ضده أحد الأشخاص المتضررين من أفعاله الجرمية السابقة، دون أن تشفع له كل الخدمات التي قدمها لزبانية الأسد من نهب لأموال السوريين وحياتهم أثناء محنة تجوعيهم الآثمة.
اقرأ/ي أيضًا: باب الحارة... "العرصات" تتكاثر
يشعر أنصار الأسد في الفترة الحالية من عمر تمرد السوريين على سلطتهم الأسدية بالمزيد من الثقة بالنفس، والإحساس بنشوة النصر الموصل إلى العظمة، وفائض القوة الغامرة، الأمر الذي يفجر في دواخلهم نوازع الانتقام والاحتقار والتعالي تجاه كل شخص يحاول أن يشاركهم نشوة الانتصار، في الوقت الذي لم تثبت له أي مشاركة ولم يسجل له أي دور في المعركة الوطنية التي خاضوها ضد المؤامرة الكونية الكبرى على وطنهم الغالي سوريا الأسد، لا عبر موقف سياسي مساند، ولا عبر مشاركة فنية وازنة، يتساوى في ذلك الموقف الشاب الهارب من خدمة العلم، كما الفنان الذي غادر مملكة الاسد طلبًا للسلامة الشخصية وظل ينتظر جلاء نتائج المعركة الكونية ليقرر لأي الأطراف سينحاز.
في هذا السياق الهستيري من حُمى الوطنية السورية، يمكن للمرء أن يتفهم ردة فعل أنصاره الفيسبوكيين الغاضبة تجاه الطريقة المستفزة للفنان سامر المصري وأغنيته "بحبك يا شام"، الذي حاول من خلالها أن يشاركهم بفرحة نصر لم يشارك فيه أبدًا، ولم يشفع له على ما يبدو إقراره بالانتصار الأسدي ومباركته له على أمل العودة للعيش في حماه، الأمرالذي بدلًا من أن يقابل بالاستحسان والرضا قوبل بالرفض والاستهجان والتخوين كما جاء في صفحة "وطنني حبيبي" الموالية لنظام الأسد: "بعد أن تخلى عن الشام في أصعب ظروفها وخانها.. سامر المصري يغني اشتياقًا لها؟".
في محاولة لفهم الدوافع التي قادت سامر المصري للوقوف في وضعية المتزلف للنظام الأسدي، نعثر عليها في الخوف من العقاب الأسدي الذي يتوعد به معارضيه، والذي يصل في حدوده القصوى إلى إزهاق الحياة عبر التعذيب، وفي حدوده الدنيا الإذلال عبرالتهميش والمنع من العمل، ومع أن المصري صرّح أكثر من مرة أنه ليس معارضًا كي لا يأخذ الرجل بجريرة فعل لم يتبنه، وبما أنه أراد وهو على ما يبدو صادق في ذلك، على أن يظل شخصًا خارج السياسية، وعلى أن تظل بطولاته التي تعرفنا عليها في المسلسلات مجرد بطولات درامية لا ناقة له فيها ولا جمل، إلا أنه مع ذلك وجد نفسه مستهدفًا من قبل أزلام السلطة الأسدية وزعيم نقابتها المستذئب زهير رمضان الذي قام بفصله من عضوية "نقابة الفنانين"، مرفقًا ذلك الفصل، ربما بتقرير أمني لأحد الفروغ الأمنية عن موقف المصري الرمادي من النظام، الذي يتعارض مع دعوة زعيمه بشار للخروج من هذه المنطقة الرمادية إلى نور الحقيقة الأسدية، خاصة بعد أن اتضحت الرؤية وبانت العبارة، على النحو الذي صيغت فيه الحقائق وفق القالب القهري التالي "كل من ليس معنا فهو علينا بالتأكيد".
إن محاولة أنصار الأسد الآثمة انتزاع حق المصري في حبه لوطنه اعتداءٌ على عاطفة الرجل
في ردة فعل السلطة الأسدية وأنصارها على موقف سامر المصري الرمادي، رغم محاولته الجريئة في طلب الصفح، ثمة إصرار كبير على عقوبة من العيار الثقيل تتمثل بحرمانه من شرف الانتماء إلى وطن لا يرغب الرجل بغيره، مرفقًا بإصرار منقطع النظير في حرمانه من حقه في الحنين إلى ذلك الوطن، ذلك الحنين الذي ما هو في جوهره إلا عودة إلى الذاكرة التي شكلناها في علاقة تملكنا للمكان أوالوطن الذي عشنا فيه عبر الزمن، حيث تصبح الأبنية والشوارع وعلاقات الجوار وعلاقتنا مع البشر جزءًا حميميًا من ذواتنا، أو امتدادًا أصيلًا لها كما لو كانت رحمًا طبيعيًا لعيشنا، الأمرالذي يفسر الوجع الذي يتراكم في نفوسنا جراء هجرتنا له أو الابتعاد عنه.
اقرأ/ي أيضًا: في برنامج "في أمل".. دريد لحام خائن لضميره
إن محاولة أنصار الأسد الآثمة انتزاع حق المصري في حبه لوطنه اعتداءٌ على عاطفة الرجل، تلك التي كوّنها مع طبقات المكان التي تملّكها نفسيًا، مرارًا وتكرارًا، إلى الدرجة التي أصبحت جزءًا أصيلًا من ذاته، وبالتالي لا يمكنها أن تنسلخ عما تعرّفت عليه أول مرة، تحت وطأة أي قرار لاأخلاقي مشبع بالحقد والتشفي.
اقرأ/ي أيضًا: