يمكن اعتبار الشاعر الفرنسي سان جون بيرس (1887 – 1975)، وهو اسمه المستعار الذي اختاره في 1925 عند نشره قصيدته "أنا باز" لاسمه الحقيقي سان ليجيه ليجيه، من أكبر شعراء العصر بل وأكبرهم.
وإذا ما قارناه، بكبار الشعر في هذا العصر، يبدو أهمهم وأعظمهم. فهو أكثر غنى من ت.س. اليوت، وأعمق وأكثر اضاءة من عزرا باوند، وأوسع أفقًا من كلوديل، ويتفوق تفوقًا بارزًا على نيرودا من الناحية الفنية.
قصيدة المنفى التي كتبت في أمريكا في 1941 تشكّل مرحلة جديدة في نتاج الشاعر الفرنسي سان جون بيرس
مجمل نتاج بيرس منذ مطلع شبابه (1907)، "من أجل الاحتفال بطفولة" وحتى "جفاف"، آخر ما نشر له قبيل وفته، ومرورًا بمجموعته "منارات" التي ترجمها أدونيس كاملة إلى العربية إنّ مجمل نتاجه يكشف مدى تطوره على امتداد خمسين عامًا. فبيرس، حتى وقبل أن يبلغ العشرين، كان يمتلك بامتياز أدوات تعبيره اللغوية.
صوّر عالم الطفولة في "صور كروزوي" (1907) وكأنها لوحات لغوغان، وكأنه عالم فردوسي ساحر، عبّر عنه بلغة شعرية واسعة الرؤيا وباهرة.
ويمكن القول إنّ الشعر الذي كتبه بيرس أثناء عمله الدبلوماسي لم يتجاوز العمل الواحد، "أنا باز" 1920. وهذه القصيدة التي تفصلها عن قصيدته الأولى "صور كروزوي" 13 عامًا، والتي كتبها في الصين في 1920، تبقى بين مجمل أعماله الأكثر سرية وغموضًا. إنها ملحمة غريبة ومكثفة، يفتح لنا الشاعر فيها لوحات تاريخية رائعة: من فتوحات وتحركات شعوب وبناء مدن: حيث نشتم فيها رائحة آسيا نافذة وقوية، وتذكرنا ببلاد المغول والصين. حيث إن بطلها يذكرنا بكبار الفاتحين كاسكندر أو جنكيزخان.
أما قصيدته المنفى التي كتبت في أمريكا في 1941، فإنّ المسافة التي تفصلها عن قصيدته الأخيرة أكثر من 20 عامًا. فهي تشكّل مرحلة جديدة في نتاج سان جون بيرس، إنّها قصة المنفي والمخلوع الذي يتأمل مصيره. قصة الغريب المضطهد في بلاده، الذي يحاول أن يعيد بناء مملكته المفقودة، لكن بواسطة اللغة والشعر.
أمّا قصيدته رياح التي كتبت في 1946، تعتبر من أهم أعماله الشعرية. فهي نشيد العواصف والزوابع التي هبت على العصر الذري، نشيد الدوامة الفوضوية حيث السلم يسقط في المأساة.
في قصيدته منارات التي يبدأ بمطلعها المهول "ضيقة هي المراكب"، فهي نشيد حواري بين المرأة والرجل، بين البحر والشاطىء. والرجل يمثل فيها دور الراحل الأبدي الذي لا يستقر على حال، حيث نراه طورًا عدائيًا عنيفًا وطورًا آخر منكفئًا أو غائبًا، بينما نجد المرأة في حالة دائمة من الثبات والاستقرار، تأخذ وتعطي، تتقبل وتلد.
عند قراءة سان جون بيرس نلمس بوضوح بروز نزعة إنسانية عنيدة لكنها نزعة إنسانيّة خاصّة. فهو مشبع بالتوراة والتراجيديا اليونانية وهوميروس، كما أنّه مطلع بعمق على النّصوص المقدّسة الهندية والصينية والمصرية.
هذا بالتحديد ما يجعل سان جون بيرس يفتح الشعر الفرنسي على حضارات الشرق وأمريكا الجنوبية. كما يكشف معجمه المتنوع والخصب عن إلمام موسوعيّ من علوم وتقنيات مختلفة جعله يستعمل كلمات وصورًا نادرة: كلمات تقنية وجغرافية وتاريخية وأسماء نباتات غريبة وأسماء معادن. كلها يحولها بيرس إلى مادة شعريّة، من خلال اختمارها بتجربة داخليّة هي إيقاع لحياته منذ "صور كروزوي".. وحتى آخر ما نشر له "جفاف".
يكشف معجم سان جون بيرس المتنوع والخصب عن إلمام موسوعيّ من علوم وتقنيات مختلفة جعله يستعمل كلمات وصورًا نادرة: كلمات تقنية وجغرافية وتاريخية وأسماء نباتات غريبة وأسماء معادن
لعل هذه التجربة، وعلى امتداد حياته، والتي عبر عنها بمختلف قصائده، تشكل في استمراريتها وحدة لا شقوق بينها أو فكاك، هي المطهر الشعري الذي تحوّل فيه هذه الكلمات والصور الغريبة إلى مادة شعرية. من هنا، إن ما أخذ على سان جون بيرس بأنّ موضوعاته تافهة، وأنّ شعره خال من الأفكار وأنّه لم يعرف كيف يعطي لأعماله وحدة، على عكس كلوديل الذي تهيمن على مجمل أعماله الفكرة الدينية ومن ثم تعطيها وحدة. إنّ هذه المآخذ خاطئة في أساسها: وحدة العمل تكمن في شخصية المؤلف، وهي شخصية بالغة الحساسية، والتطور الذي تكلمنا عنه منذ قصائده الأولى وحتى آخرها، وهو تطوّر بالمعنى الاستيطاني، دليل كاف على ذلك. إن هذا التطور بالنسبة إلى شاعر كسان جون بيرس هو وعي لسلطة التعبير والخلق: ليس المهم غرابة الحياة بل امتلاء هذه الحياة.
نتاج سان جون بيرس الذي هو تعبير إنساني عميق بذات أهمية التعبير الشعري العميق. لقد اختار سان جون بيرس مثل مالارميه الفن الصعب. اختار اللغة الصعبة التي لا تفهم ولا تحس إلا بقراءة هادئة وبانتباه كبير، يمكن القول إنّها لغة في قلب اللغة. حديقة مرصودة لا يدخل إليها إلا من يستطيع أن يفك رموزها وأسرارها.
هذه اللغة عبر بها سان جون بيرس عن غنائية عالية. غنائية ملحمية يرتفع صوته فيها بنبرة نبوية، تستشرق مصير الإنسان وتمجد وجوده. وهذا ما كان طموح كلوديل أيضًا في أن يكتب شعرًا ذا أفق كوني.
هذه الغنائية الملحمية تميزها صفات بدائية تتمثل بالنضارة والخضرة والخصب، تصل إلى الوحشية، تماما كعالم رامبو أو غوغان، لكن هذه الحيوية عند سان جون بيرس تعرف كيف تبقى سيّدة حركتها، على عكس رامبو. وعلى حد تعبير سارتر الذي يقول عنه: "نجد الإحساس عنده كبيضة تمعسها بيديك ليهرق محتواها في الجهات الأربع"، العالم عند بيرس، مهما تفسخ أو تفكك أو اتسع، يبقى في دائرة سلطته. لكن إذا التقى سان جون بيرس مع رامبو في هذه الوحشية والنضارة فإنه التقى مع السرياليين أيضًا باستعماله مزاوجة الكلمات والصور بطريقة مفاجئة وطبيعية معًا، وهذا ما جعل بريتون يصفه "بالسريالي الذي احتفظ بمسافة"، لكنه لم يعتمد الكتابة الآلية، كما فعل السرياليون، فالعمل الفني، بالنسبة إليه كما كان بالنسبة لبول فاليري ومالارميه هو عمل واع. هو بناء واع، يستعمل فيه الشاعر مهارته وبراعته أي صناعته، بحيث يبقى سيّد الحالة مهما طغت أو اجتاحت، لكن صناعة سان جون بيرس تقع أحيانًا في التصنّع، مما يفقد شعره ألقه وتوهجه.
لا يمكننا أن نهملَ القضية المهمة التي تطالعنا في شعره هي الغموض. ومن البديهي القول إن الغموض يبدأ باستعمال الصّورة أو الرّمز. سان جون بيرس هو شاعر الصورة والرمز بامتياز. لكن بعض جوانب غموضه يعود إلى طبيعة تأثراته واستيحاءاته والشعور بالغرابة نتيجة هذا الغموض عنده يتضاءل بقدر ما نكتشف ينابيع هذه التأثرات. فهو مثلًا تأثر بالتوراة "سفر الخروج" و"كتاب الموتى" في مصر القديمة، و"أنصاب" لفكتور سيغالان، وبثقافات شرقية أخرى تكلمنا عنها، ومن ناحية أخرى فإنّ الغموض عنده مردّه لاستعماله لمفردات نادرة وصعبة لأسماء حيوانات ونباتات ومعادن، ولاتجاهه الموسوعي في معجمه اللغوي. لكن هذا الغموض يأتي في صلب عمليته الشعرية وهو غموض في الدرجة الأولى شعري يضفي جوًا من الغرابة والتفرد لا نجدهما تقريبًا إلا عند رامبو، وأحيانًا قليلة عند فاليري.