17-أكتوبر-2024
هزيمة غربية

(MP) التواطؤ الغربي مع الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين يمثّل أعمق هاوية أخلاقية تردّى فيها الغرب منذ الحرب العالمية الثانية

"هزيمة غربية" هو عنوانٌ لكتابٍ جديد من تأليف البروفيسور الفرنسي ديدييه فاسين، الأستاذ في كلية "كوليج دو فرانس" المرموقة. ويفحص فاسين في كتابه الجديد بتعمّقٍ معرفي أسباب موافقة الغرب على جريمة إبادة الشعب الفلسطيني معتبرًا أن التواطؤ الغربي مع الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين تمثّل "أعمق هاوية أخلاقية تردّى فيها الغرب منذ الحرب العالمية الثانية".

وممّا يزيد أطروحة الكتاب مصداقيةً أنّ البروفيسور ديدييه فاسين يتولّى كرسي "الأسئلة الأخلاقية والقضايا السياسية في المجتمعات المعاصرة" في "الكوليج دوفرانس".

ويكتسب كتاب فاسين أهميةً مضاعفةً لأنه صدر بالتزامن مع الهجوم الدموي الجديد الذي يشنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي على جباليا شمال قطاع غزة، ومع تصريحات لا أخلاقية لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك التي أضفت شرعيةً على مجازر إسرائيل بحق المدنيين في غزة. لكنّ اللافت للانتباه، حسب موقع "ميديا بارت"، أنّ صوت فاسين وبقية الأصوات المشابهة له لا تلقى صدًى في أروقة صنع القرار الغربية، فقد تعاملت هذه الدوائر "بصمت مريب" مع كل من يُعرّي صورتها الأخلاقية التي فضحتها جريمة الإبادة الجماعية التي تتم بسلاح غربي وتحت مظلةِ حماية سياسية غربية.

لم تكن هناك "حرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بل كانت حربًا ضد الفلسطينيين، بدأت قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأصبحت شاملةً بعد ذلك التاريخ"

وبما أنّ فاسين هو أفضل من يتحدث حول موضوع كتابه، فقد أجرى معه موقع ميديا بارت الفرنسي مقابلةً ردّ فيها على الأسئلة الأخلاقية الكبيرة المطروحة اليوم على حلفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي.

لماذا سمح الغرب لإسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة؟

يرى ديدييه فاسين ـ منذ البداية ـ أنه من غير الممكن إقناع المدافعين عن سياسة الحكومة الإسرائيلية القاتلة، الذين اتهموا المطالبين بوقف إطلاق النار بمعاداة السامية، ولذلك فإنّ ما هو ممكن يتمثل، من وجهة نظره، في تقديم عناصر توضيحية لكثيرٍ من الناس الذين لديهم أسئلة حول ما حدث خلال العام الماضي، ممن يودون أن يفهموا لماذا سمح العالم الغربي للجيش الإسرائيلي بتدمير غزة والقضاء على سكانها، ولماذا لم يرد عندما قُتل الأطفال ودُمرّت المستشفيات وقُصفت المدارس وقُتل الصحفيون، ولماذا حظر الغرب المظاهرات التي طالبت باحترام القانون الدولي، مع أن إسرائيل انتهكت القانون دون عقاب؟

من هذا المنطلق يقول فاسين إنه ألف كتابه "لأنه بدا له من المستحيل أن نبقى جميعًا صامتين في مواجهة ما قد يُعَد أعمق هاوية أخلاقية تردّى فيها العالم الغربي منذ الحرب العالمية الثانية، من أجل ذلك أردتُ إنشاء أرشيف للأشهر الستة الأولى من الحرب في غزة، من أجل ترك أثرٍ للمستقبل". هذا الأثر هو شهادة أخلاقية لا ينبغي كتْمها.

سأل موقع "ميديا بارت" فاسين عمّا إذا كانت موافقة أوروبا على إبادة غزة نوعًا من التكفير عن المحرقة، ليردّ المؤلف بتساؤل آخر هو: لماذا يجب أن يدفع الفلسطينيون ثمن الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون على مدى قرون حتى بلغت ذروتها في الإبادة الجماعية لليهود، وكيف يمكن للعالم الغربي أن يخلّص نفسه من مسؤولياته في تدمير يهود أوروبا من خلال دعم تدمير الفلسطينيين في غزة؟.

وأكّد ديدييه فاسين أنّ استحضار المحرقة في ألمانيا يهدف إلى التعتيم على المزيد من قضايا السياسة الدولية التافهة، والاستحضار هو مسألة جيوإستراتيجية، لأن إسرائيل تعتبر مخفر العالم الغربي في الشرق الأوسط، وهو مسألة اقتصادية لدعم إنشاء سوق إقليمية كبيرة ودعم الجهاز الصناعي العسكري الدولي، كما أنه مسألة أيديولوجية، يتصدرها صعود العنصرية المعادية للعرب والمسلمين في سياق نمو الحركات الإسلامية العنيفة في كثير من الأحيان.

وردًّا على سؤال حول كيف تم نشر شرطة الفكر واللغة لمنع الناس من رواية حقيقة ما يحدث في غزة؟ ردّ فاسين بأنه تم إنشاء نسخةٍ رسمية من الحقائق في وقت مبكر جدًّا من قبل الحكومات، إذْ تحدّث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر بوصفه "أكبر مذبحة معادية للسامية في القرن" واستحضر "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" واقترح إرسال جنود إلى غزة كجزء من "تحالف" مماثل لذلك الذي قاتل تنظيم الدولة الإسلامية المكنّى "داعش"، لتصبح هذه اللغة مقبولةً في الفضاء العام، حسب فاسين.

ويواصل البروفيسور الفرنسي قائلًا إنه لم تكن هناك "حرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بل كانت حربًا ضد الفلسطينيين، بدأت قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأصبحت شاملةً بعد ذلك التاريخ".

وأوضح فاسين أن صيغة "الحرب بين إسرائيل وحماس" التي هيمنت على فترة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر "مضللة بشكل مضاعف"، أولا، لأنها تمحو التاريخ الذي سبق هجمات حماس، حيث قام الإسرائيليون تدريجيًا بتجريد الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم وحقوقهم، وثانيًا، لأنها تحجب خطابات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذين أعلنوا على الفور أنه لم يكن هناك فلسطينيون أبرياء، وأنهم بأكملهم مسؤولون، وأنه كان من الضروري إزالة قطاع غزة من على وجه الأرض، وأنه من الضروري تخيير سكانه بين "البقاء والموت"، و"الجوع أو الرحيل".

وردّ فاسين على سؤال "هل التقليل من شأن إبادة غزة والتسامح معها يساويه إنكارٌ لواقع 7 تشرين الأول/أكتوبر؟ بالقول إن السابع من تشرين الأول/أكتوبر كان بمثابة صدمة كبيرة للإسرائيليين ولجزء كبير من اليهود في الشتات حول العالم، وذلك بسبب انتهاء الإيمان بالقدرة العسكرية المطلقة للجيش الإسرائيلي، والكشف عن عدم كفاءة حكومة إسرائيل. وأدى ذلك إلى ظهور مظاهرات التأييد لإسرائيل في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في الدول الغربية، التي سارع قادتها إلى التوجه إلى إسرائيل لطمأنة حكومتها على دعمهم غير المشروط، وانشغلت وسائل الإعلام الرئيسية طيلة الحرب بمناقشة الحياة اليومية للمجتمع الإسرائيلي في أعقاب هذا "اليوم المأساوي"، وتجاهلت خلال 12 شهرًا ما يحدث في قطاع غزة من الوحشية غير المسبوقة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي.

إذا كان هناك تهديد وجودي، فهو يتعلق فقط بالفلسطينيين الذين تستمر أراضيهم في التقلص نتيجة الاستيطان والتدمير

ولم يفت فاسين أن ينبّه إلى تواطؤ وسائل الإعلام الرئيسية، حيث قامت بتطوير معلومات مؤيدة للمنظور الإسرائيلي في كلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، مع اختلافٍ مهم وهو أن قنوات التلفزيون والإذاعة العامة في فرنسا عانت من ضغوط السلطة السياسية، في حين أن الولايات المتحدة لا يوجد عمليًا فيها سوى منافذ صحفية خاصة.

وبالنسبة للأكاديميا التي من المفترض أن تكون مساحةً للمناقشة التأملية، فقد تأثر بقوة وأصبحت المناقشة صعبةً، "لأنّه بدلًا من تبادل الحجج العلمية، كثيرًا ما نرى هجمات تتم من خلال محاولة تشويه سمعة المعارضين، وخاصةً من خلال إدانة كل أشكال التفكير النقدي باعتبارها مشاركةً في معاداة السامية".

لكنّ فاسين يشير إلى أنّه في المحاضرات التي ألقاها وفي المناقشات العامة التي شارك فيها كثيرا، كان مذهولًا بالاهتمام بتحليل الوضع وبالدفاع عن القانون والعدالة، مضيفًا أنه شعر أن لدى الطلاب والأكاديميين كما لدى المواطنين، "رغبةً في التحرر من قيود شرطة اللغة والفكر، وطلبًا للتأمل فيما حدث خلال العام الماضي، وهو ما يبدو ضروريا بالنسبة لي"

ويختتم فاسين مرافعته بالتأكيد على أنه "إذا كان هناك تهديد وجودي، فهو يتعلق فقط بالفلسطينيين الذين تستمر أراضيهم في التقلص نتيجة الاستيطان والتدمير، وكما كتب عالم اجتماع إسرائيلي، إذا حاول الفلسطينيون التفاوض يتم تجاهلهم، وإذا تمردوا يتم سحقهم، وفي الكارثة الحالية، نتمسك بنموذج جنوب إفريقيا باعتباره النموذج الوحيد الذي يسمح لنا بتصور وسيلة للخروج من الكراهية العميقة الجذور بين شعب أصلي وشعب محتل".