مات أبي في العاشر من شباط/فبراير الماضي إثر ضجر ألم به منذ سنوات. كنت فوق رأسه عندما لفظ نفسه الأخير، بهدوء مع قليل من نفاد الصبر. هكذا خرج من الحياة بسلاسة، أغلق الباب وراءه بلا ضجيج كي لا يزعج أحدًا، متخليًا إلى الأبد عن ذلك الوجه الوديع والحزين، وعن تينك العينين المعتذرتين دومًا عن كون صاحبهما لا يزال حيًا.
كان طفلًا فمراهقًا في ظل الانتداب، وشابًا في عهد الاستقلال، ورجلًا إبان متوالية الانقلابات.. ثم شيخًا في ظل الحرب المختلطة التي لا تزال بلا اسم
ولد أبي يوم هدأت خريطة بلاده وكفت حدودها عن التراقص، ولما وقف على مشارف الموت كانت الخريطة قد عادت إلى الاهتزاز وكانت الحدود في أوج رقصها الهذياني. وبين العام 1930 والعام 2021 مرت عهود كأنها دهور، سقطت دول وانقرضت سلالات وانهارت أمجاد. صعدت أيديولوجيات ثم تحطمت، ولمعت شعارات ثم خبت، وازدهت إمبراطوريات ثم هوت..
اقرأ/ي أيضًا: يوميات الإنسان العادي.. تاريخ بلا نياشين
كان طفلًا فمراهقًا في ظل الانتداب الفرنسي، وشابًا في عهد الاستقلال الوطني، ورجلًا إبان متوالية الانقلابات اللانهائية.. ثم شيخًا في ظل الحرب المختلطة التي لا تزال بلا اسم.
وقد تقاطعت حياته الشخصية مع التاريخ في أكثر من موضع، وكان الدم هو دائمًا الذي يرسم نقاط التقاطع: فقد جده في واحدة من حروب الهويات العشائرية التي كانت سائدة يومئذ، ثم فقد أباه في واحد من أوبئة ذاك الزمان، وخسر أقارب في حرب الإنقاذ، ثم ابنًا في حرب الاستنزاف، وآخر في زمن الصمت الثقيل، ثم ابنة في الحرب الأخيرة التي لم تسحب أذيالها من البلاد بعد..
ومع هذا الزخم من الوقائع الدامية، فإن الرجل كان بعيدًا تمامًا عن أن يكون صالحًا ليلعب دور الشاهد على العصر، ليس لأنه مجرد فلاح بسيط في قرية صغيرة، وليس لأن تعليمه توقف عند درجة السرتفيكا، وكذلك ليس بسبب ميوله الدينية التي استيقظت في الكهولة.. بل ببساطة لأنه امتلك لامبالاة صلدة وعنيدة إزاء السياسة وكل ما له علاقة بالشأن العام. لم ينتم إلى حزب ولم يعاد حزبًا، لم يحب سياسيًا ولم يكره سياسيًا. لم يتبن حلمًا كبيرًا، ولم يهتز لشعار أو يطرب لأهزوجة. لم يفرح لانتصار ولم يبك على هزيمة.
لقد حيرتني هذه السلبية السياسية العميقة طويلًا، وكنت لأعزوها إلى الأنانية وقسوة القلب، غير أن الرجل، على العكس من ذلك تمامًا، كان موضع تندر لرقة قلبه وفرط حساسيته ودموعه التي تهطل إثر أي خبر حزين، من قريب جاء أم من بعيد.
وكنت لأقول إنه الجهل وحسب، لولا أنه كان مدمنًا على القراءة، مهووسًا بمطالعة كل ورقة عليها أحرف مطبوعة، بدءًا من أوراق الروزنامة وانتهاء بمجلدات "الحرب والسلم".
لماذا كان على أبي أن يعبأ بالسياسة ما دامت السياسة لم تعبأ به يومًا؟ وفي بلاد كهذه لماذا كان عليه أن يكون يمينيًا أو يساريًا، محافظًا أو تقدميًا، ليبراليًا أو اشتراكيًا؟
وقد جاء يوم اعتقدت فيه أنني عثرت على السبب. قصة قديمة تعود إلى العام 1959، حيث اعتقل والدي من قبل رجال عبد الحميد السراج، وبعد شهر في قبو رطب ومظلم، تعرف فيه على فنون السلطان الأحمر التقدمية، وذاق لسعات الكرباج الرباعي والسوط المسمى ذيل الفيل (فخر الصناعة الوحدوية)، عرف تهمته: الشيوعية. هو الذي لم يكن قد قرأ حرفًا واحدًا لماركس أو أنجلز أو لينين، ولم يكن يعرف دلالة للأحمر سوى أنه لون الدم النازف من أنفه ومن جنبيه.
اقرأ/ي أيضًا: متحف الموت
هذه هي إذًا. هنا منشأ العقدة: صدمة قاسية حرّمت السياسة على أبي وحكمت عليه بسلبية أبدية إزاءها. ولكن هذا التفسير لم يصمد طويلًا، هدمته أدلة وقرائن كثيرة، لأعود مجددًا إلى حيرتي.
وكما يحدث دومًا في الروايات والأفلام، وأحيانًا في الواقع، فقد جاءني الإلهام فجأة فيما كنت أراقب احتضاره، وسرعان ما اختفى سؤالي القديم: لماذا لم يهتم أبي بالسياسة؟ ليحل مكانه سؤال معاكس: ولماذا كان عليه أن يهتم بها أصلًا؟!
لماذا كان عليه أن ينتمي إلى حزب أو جماعة ما دام في النهاية سيذهب إلى الموت وحيدًا؟ أي حلم كبير كان سينقذه من ضجر الشيخوخة؟ أي شعار كان سيداوي جسده المثخن بجراح الزمن؟ أي أيديولوجيا كانت ستواسيه في أبنائه الميتين وفي أحفاده الذين ركبوا البحر هربًا من الموت؟
لماذا كان على أبي أن يعبأ بالسياسة ما دامت السياسة لم تعبأ به يومًا؟ وفي بلاد كهذه لماذا كان عليه أن يكون يمينيًا أو يساريًا، محافظًا أو تقدميًا، ليبراليًا أو اشتراكيًا؟ لم يسأله أحد إن كان السوط الوطني أقل إيلامًا من السوط الكولونيالي، وإن كانت البندقية التقدمية أقل إخافة من البندقية الرجعية، وإن كانت الضرائب الاشتراكية أكثر رحمة من الضرائب البرجوازية. لم يسأله أحد إن كان يؤمن بنظرية التقدم. على الأرجح كان سيقول ــ إن سُئل ــ إن الشيء الوحيد الذي تقدم هو عمره، وأن الذي تغير حقًا هو أسباب الشقاء، أما الشقاء نفسه فهو باق لا يحول ولا يزول.
يقال عندنا إن الولد يعيش أنى وكيف يعيش ولكنه في النهاية يموت وهو يشبه أباه، وها أنا، وقد تجاوزت الخمسين وصار الموت بندًا في جدول حساباتي، أعود لأفكر مثل أبي. أنا الذي عشت حياة مختلفة عن تلك التي كانت له سأموت وأنا أشبهه، مع فارق واحد: سوف يرافقني شعور بالخيبة، ذلك أنني، خلافًا لأبي، كنت قد حلمت.
اقرأ/ي أيضًا: