حين نقرر أن نأخذ صورة سيلفي، نستحضر ابتسامة عريضة. هي الابتسامة التي تريد القول إننا سعداء. حتى لو كنا نعيش في بلاد لا تزورها السعادة إلا لمامًا. وحين ننشر صورًا لمواقع ومدن وغابات على صفحات التواصل الاجتماعي، فإننا نختار تلك المواقع بدقة، لأننا نريد لها أن تكون موحية، مؤثرة ومغوية. معظم صورنا تقول للآخرين: لقد زرنا بلادًا ومدنا لم تزوروها. وحتى لو فعلتم فأنتم لم تتمكنوا من التقاط هذا الجمال الذي تختزنه والذي تعبر عنه الصورة التي التقطناها أحسن تعبير. وحين تكون المدن متغاوية أصلًا، وتطمح كل معالمها أن تتحول إلى صور على بطاقات بريدية، يصبح التحدي الذي نجد أنفسنا أمامه أشد إغراء: نريد أن نريكم من باريس ما لن تنجحوا برؤيته إذا قمتم بزيارتها، وما لم يستطع أهلها وصانعو صورتها إيصاله إليكم.
نحن نصور الأماكن الغريبة والبعيدة، ونبتسم أمام الكاميرات، لأننا نريد القول إننا وفي غفلة من الزمن التقطنا لحظة من المتعة
لكننا وفي سعينا المحموم هذا ننسى أن نتمتع بما تتيحه لنا هذه الأماكن من خيارات. هذا إذا كان التمتع ممكنا أصلًا. فالأبراج العالية التي تضاء واجهاتها ليلًا، استعدادا لمواجهة عدسة الكاميرات، تحدد موقعنا كمصورين لها بوضوح: أنتم في الشارع أو التاكسي أو على ناصية ما، ولم يكن ممكنًا لكم التقاط هذه الصور لو كنتم تعيشون داخل هذه الأبراج. وحيث إن الحال هي هذه، فليس ثمة ما يجعلنا، منطقيًا، كزوار لهذه المدن والمواقع أرفع شأنًا وأشد استمتاعًا، وأكثر سعادة من أولئك الذين يتصفحون صورنا على شاشات حواسيبهم أو هواتفهم. نحن في الحاجة والفاقة سواء. مع ذلك ثمة غواية لا تقاوم في التقاط الصور. وثمة غواية لا تقاوم في إبلاغ الآخرين أننا سعداء. هل نحن حقًا سعداء؟ وهل انتصاب برج شامخ أمام ناظرينا يجعلنا أوفر حظًا من الذين يشاهدونه في التصاوير والأفلام فقط؟
اقرأ/ي أيضًا: ما مصير كل هذه الصور؟
الأرجح أن السعادة التي نريد التعبير عنها في مساعينا الآنفة الذكر والوصف، هي سعادة المفرج عنهم مؤقتًا من السجون. يستوي في هذا التقرير من ولدوا وعاشوا في مانهاتن ومن ولدوا وعاشوا في مقديشو. نحن نصور الأماكن الغريبة والبعيدة، ونبتسم أمام الكاميرات، لأننا نريد القول إننا وفي غفلة من الزمن التقطنا لحظة من المتعة. ونحن نعرف أننا سنعود إلى روتيننا الحزين بعد انتهاء هذه اللحظة، لهذا قررنا تخليدها. كما لو أن المرء في العصر الحديث يريد أن يكتب تاريخ سعادته ويوثقها بهذه اللحظات. هذه الصور التي بمجرد أن تلتقطها عدساتنا وتنشر على صفحاتنا، تصبح حاملة لتواقيعنا، ومؤرخة لسعادتنا. نكون سعداء أكثر بمقدار ما ننجح في إعادة تصوير المعالم التي يحفظها الناس عن ظهر قلب: أوبرا سيدني، برج العرب، أمباير ستايت، برج إيفيل، ساحة ترفلغار، أهرام الجيزة... وهذه معالم يندر أن تجد أحدًا في العالم لا يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب. ولم تمر صورها أمامه آلاف المرات.
خارجون من سجوننا المؤبدة للحظات فقط، ونعود إليها لنتحول مرة أخرى إلى متلقين لما يبثه الآخرون من سعادة في صورهم التي تشبه صورنا. كما لو أن الثقافة الاستهلاكية، وهذا ليس ذمًا بهذه الثقافة، تريد أن تدمغنا بدمغة المتذكرين لتمحو آثار العيش عنا. تريد منا أن نتذكر أننا ذات يوم كنا هناك، ولدينا دلائل تؤكد مزاعمنا. وكلما تواترت زياراتنا تلك وتصاويرنا هذه كلما بدا الزمن أقل عسفًا. حيث تقوم هذه المحطات السريعة بتقطيعه إلى أوقات مقتطعة، فلا يعود ممتدًا إلى ما لا نهاية ومكررًا على النحو الذي يجعل الحياة برمتها سجنًا لأحلامنا ومتعنا وخيالاتنا لا يمكننا التخلص من أسواره إلا بتأبيد هذه اللحظات.
خارجون من سجوننا المؤبدة للحظات فقط، ونعود إليها لنتحول مرة أخرى إلى متلقين لما يبثه الآخرون من سعادة في صورهم التي تشبه صورنا
هل فكر المؤرخون وعلماء الاجتماع في وسيلة ذات جدوى لقياس مبلغ سعادة البشر على مر العصور؟ الأرجح أنهم حاولوا. لكنك حين تسأل سائق تاكسي من نيويورك عن المدينة فلن يتردد في إبلاغك أنها أجمل مدن الأرض. لكنه يعرف وربما أنت تعرف أنه يعمل معظم ساعات نهاره وليله، ليتسنى له أن يحصّل ما يقيم أوده في مدينة لا ترحم. مع ذلك لن يعترف لك من السؤال الأول بأن حياته تشبه حياة السجناء. والأرجح أن هذا الادعاء الذي يمارسه كل شخص، وهو في معنى ما دفاع عن خياراته وعن رغبته بالاستمرار حيًا أيضًا، يعيق أي محاولة لقياس السعادة من قبل المؤرخين وعلماء الاجتماع. لأن جواب السؤال عن متعة العيش في نيويورك وباريس سيكون دائما تأكيدًا على تحققها.
اقرأ/ي أيضًا: صور العار.. تطبيع لبناني ساذج
رغم هذا، بل وربما بسببه، نجرؤ على الظن أننا سعداء. لأننا على نحو ما ارتكبنا الحماقة نفسها جميعًا، وتواطأنا في ما بيننا على التقرير بأن توثيق زياراتنا لأماكن ومدن جديدة أمر يثبت أننا لسنا سعداء الآن لكننا كنا كذلك ذات صورة.
اقرأ/ي أيضًا: