بعد روايته "بيت الديب" التي تُرجمت إلى الصينية عام 2019، صدرت في بكين مؤخرًا النسخة الصينية من رواية "يكفي أننا معًا" للروائي المصري عزت القمحاوي.
صدرت الرواية عن "دار القارات" في بكين، ترجمة كل من ما خه بين، أستاذ اللغة العربية وآدابها ووكيل كلية اللغات الأجنبية في جامعة القوميات غرب الصين، وما فنغ جون رئيس قسم اللغة العربية بكلية اللغات الأجنبية بجامعة نورثويست للقوميات.
وصدرت الرواية لأول مرة عن "الدار المصرية اللبنانية" عام 2017، وهي سادس روايات القمحاوي الذي أصدر ما يزيد عن 16 كتابًا بين الرواية والقصة القصيرة والسرد المفتوح، ومن بينها: "مدينة اللذة" (1997)، و"غرفة ترى النيل" (2004)، و"كتاب الغواية" (2008)، و"بيت الديب" (2011)، و"السماء على نحو وشيك" (2015)، "غرفة المسافرين" (2020)، و"الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر" (2023).
بطلا الرواية، عاشقان مصريان، قررا السفر إلى إيطاليا في محاولة أخيرة لإنقاذ عشقهما
وكتب القمحاوي مقدمة للنسخة الصينية من "يكفي أننا معًا"، عنونها بـ"مصافحة من المؤلف"، افتتحها بقوله: "بعد أمي والكتابة أحب السفر"، وأكمل قائلًا:
يمنحنا السفر حياة إضافية مليئة بالشغف والدهشة، لكن تلك الحياة التي نكسبها خلال أيام أو أسابيع نقضيها في بلد آخر ليست في متناول اليد دائمًا. لكي يسافر الإنسان عليه أن يتزود بباسبور وتأشيرة دخول للبلد الذي يريد السفر إليه، ويحتاج إلى حقيبة وأمتعة ومالًا يكفيه، وشيئًا من المعرفة بلغة البلد الأجنبي أو لغة وسيطة من أجل التفاهم الضروري. لكن سفر كتاب ليس بحاجة إلى كل هذه التعقيدات، فهو في خفة امرأة جميلة. والمرأة الجميلة إذا أرادت أن تعبر نهرًا، تجد حتمًا من يُرحِّب بحملها فوق ظهره ليعبر بها إلى الشاطئ الآخر.
عندما تواصل معي الأستاذ ما خه بين وأخبرني بأنه ترجم روايتي (يكفي أننا معًا) كنت سعيدًا جدًا، إذ تأكدت أنه رأى روايتي جميلة بما يكفي لكي يتحمس ويحملها ويعبر بها نهر اللغة، فيجعلها في متناول قراء اللغة الصينية، التي لا أفهمها وأتأمل حروفها باندهاش كأنها السحر.
بفضل ما خه بين تكون روايتي قد سبقتني إلى الصين التي لم تزل زيارتها حلمًا من أحلامي. في الواقع هي الرواية الثانية التي تفعل ذلك بعد "بيت الديب" التي صدرت عن بيت الحكمة عام 2019 للمترجمة نيو ريمو، والمترجم شيه وي.
ستصبح لديَّ إذن روايتان في الصينية، أتأمل كلماتهما بدهشة من المسافة التي نشأت بيننا بسبب وجودهما في لغة لا أفهمها، كأنهما بنتان من بناتي هاجرتا ونسيتا لغتهما الأم، لكنهما مع ذلك لا تزالان ابنتيّ وأحبهما.
لكن الجهل باللغة الذي يمنعني من قراءة روايتي في اللغة الصينية لم يمنعني من قراءة الكثير من الكتب الصينية، بفضل مترجمين حملوا تلك الكتب وعبروا بها الجسر إلى اللغة العربية. قرأت كتبًا صينية مترجمة إلى العربية في الحكمة، في التاريخ، وبالطبع كتبًا في الأدب. وقد تيقنت مما حمله إليَّ المترجمون - رهبان المعرفة – عظمة الثقافة الصينية، وهذا كاف ليجعلني سعيدًا بأن تكون لي روايتان مقروءتين في هذه الثقافة العظيمة.
ولأعترف هنا بسر: قبل أن أعرف الصين بأقلام أبنائه، أخذني إلى هذا البلد العريق شخص إيطالي، هو المغامر الرحالة ماركو بولو. قرأت مبكرًا رحلته التي رسم فيها صورة متخيلة للصين، بها من الغرابة أكثر مما بها من الحقيقة، كعادة المغامرين الغربيين عندما يروون القصص عن الشرق.
وللمفارقة، فأنا اليوم من يقف بين إيطاليا والقارئ الصيني الذي سوف يتعرف في "يكفي أننا معًا" على إيطاليا بعيني، حيث تجري نصف أحداث الرواية في بلدي (مصر) والنصف الآخر في إيطاليا، وبالتحديد في العاصمة روما ومدينة نابولي الجنوبية وجزيرة كابري.
بطلا الرواية عاشقان مصريان قررا السفر إلى إيطاليا في محاولة أخيرة لإنقاذ عشقهما؛ إذ اعتقدت "خديجة البابي" الشابة المتبحرة في تاريخ العمارة والفن أن الحب الذي لا تستطيع إيطاليا إنقاذه لن تُكتب له الحياة بأي حال من الأحوال. كانت تحاول أن تنقذ حبها لجمال منصور، المحامي الذي يكبرها بثلاثين عامًا.
وأنا أشاطر خديجة الرأي بخصوص قدرات إيطاليا السحرية على إحياء الحب، أو ربما أنا من أوقعت الفتاة الرقيقة في هذا الوهم. أرى في جمال العمارة الإيطالية وفي تماثيلها ولوحاتها وطبيعتها المتنوعة ومطبخها طاقة حسية رهيبة. ولا يجب أن أغفل عن حيوية الإيطاليين ورغبتهم الدائمة في الكلام. هم يعشقون رواية القصص الممتعة التي يجب أن ننصت إليها لجمالها وليس لصدقها، مثلما يجب أن نفعل عند قراءة رحلات ماركو بولو.
سافرت إلى إيطاليا مرارًا وعشت في مدنها ببطء، فمن عاداتي في السفر أن أتشرب المكان بعمق، لا يعنيني عدد الأماكن التي أراها في رحلتي بل إدراك عمق القليل الذي أراه. وقد حملت بطلي الرواية خديجة وجمال إلى أماكن أعرفها جيدًا، جعلتهما يسيران على خطواتي. وبعد ذلك اعتزلت في روما لكتابة روايتهما.
ولأن الأماكن لا تعود تشبه نفسها عندما تراها عيون العشاق، فقد أحببت إيطاليا التي عرفها العاشقان أكثر من إيطاليا التي أعرفها. في بعض اللحظات كانت الإيطاليتان تختلطان، فلا أعرف في أي منهما أعيش وعن أي منهما أكتب، ثم صرت لا أعرف نفسي ولا موقعي من قصة الحب التي أكتبها.
كانت إقامتي أثناء الكتابة في شقة صغيرة، أو في الحقيقة مخبأ سري جميل؛ فهي تقع في الطابق تحت الأرضي من جهة مدخل البناية، أنزل إليها على درج مظلم، لا أشعر فيها ببقية السكان أو ضجة الشارع. لكن الأرض منخفضة في الجهة الأخرى من البناية، حيث توجد حديقة جميلة في شكل دائرة واسعة تلتف حولها العمارات، وتطل عليها الشقة التي سكنتها بواجهة زجاجية واسعة. كنت لا أرى أمامي سوى بستاني يعتني بالحديقة بين وقت وآخر والكثير من الطيور تتنقل بين الأغصان، دون أن تصلني أية أصوات كأنني في حلم صامت.
تقع البناية في المنتصف بين سوقين مركزيين قريبين، أحدهما للزهور والآخر للطعام من خضر وفاكهة ولحوم وأجبان وأسماك. كنت أكتب من الصباح الباكر حتى الظهر، ثم آخذ راحة أتنزه فيها بين السوقين. أستبدل الورد بعد أن تتدلى أعناقه، بينما أشتري يوميًّا حاجاتي لطبخ غداء طازج. وكثيرًا ما كان من الأسماك التي أعشقها، جرَّبت في تلك الإقامة الأسماك التي لا أعرفها، وتلك التي أعرفها في مصر لكنها تحمل في إيطاليا أسماءً أخرى جعلتها مختلفة، واستهلكت الكثير من فواكه البحر حسنة السمعة مع الحب والكتابة. وبعد الغداء آخذ غفوة قصيرة ثم أستأنف اللعب على مفاتيح الحاسوب مستمتعًا بصحبة العاشقين خديجة وجمال. وعندما انتهيت من كتابة الرواية كنت كمن يفارق صديقين من لحم ودم.
وإذ أمد يدي الآن لمصافحة القارئ الصيني، أتمنى أن يجد في هذه الرواية رحلتين ممتعتين إلى مصر وإيطاليا، وأن يكتفي بصحبة العاشقين دون أن يحكم عليهما، ودون أن يحاول أن أخذ خبرة من قصتهما؛ لأن قصص الآخرين لا تغنينا عن عيش قصصنا الخاصة؛ فالحب لا يُدرك إلا بالتجربة.