قبل سنوات طويلة من اندلاع الثورة السورية، قُدّر لي زيارة خاطفة لمحافظة السويداء. لكن وللأسف الشديد فإن طعم تلك الذكرى كان مريرًا.
رافقت أخي الأصغر بعد أن تم استدعاؤه لمراجعة فرع الأمن العسكري في السويداء، وصلنا ظهرًا، وانتظرت عدة ساعات خارج الفرع ممنيًا النفس بخروجه، أتذكر بشدة تلك الحجارة السوداء التي كانت تضفي على المكان رونقًا خاصًا يميز المدينة.
كنت قد أعدت على مسامع أخي نفس التعليمات مرات عديدة، في الباص، في السيارة، وقبل دخوله للفرع وتسليمه بطاقته الشخصية للحاجز الخارجي. تنحصر تلك التعليمات بالتالي: "لا تعترف بشيء مهما كانت التهم التي ستوجه لك".
كنا نجهل تمامًا سبب الاستدعاء، ففي بلد كسوريا، يصبح استدعاؤك لمراجعة أمنية بمثابة حكم لا يمكن التنبؤ بنتيجته وهو على احتمالات غير محدودة. أما عن أسباب الاستدعاء، فربما تكون قد تعرضت لكتابة تقرير كيدي بحقك قام بصياغته عنصر أمني راغب بإرضاء مسؤول ما، أو شخص جمعتك به صدفة فأفضت أمامه بحديث عفوي ينتقد سلوكًا للسلطة، أو شتيمة أطلقتها في لحظة غضب تعرضت قبلها لإجراء تعسفي من موظف أو شرطي.
في سوريا، يمتلك كل فرع أمني صيته المرعب، ويختص كل رئيس فرع بسمعة رهيبة، كانت تثير فزع الناس وتخلع القلوب من الصدور خوفًا، ومن أكثر تلك الفروع شراسة كان فرع الأمن العسكري
الأمر لا يمكن حصره، والقصص والروايات التي يعرفها القاصي والداني في سوريا قد تفوق الخيال غرابة عندما يتعلق الأمر بأسباب الاعتقالات أو التحقيقات.
يمتلك كل فرع أمني صيته المرعب، ويختص كل رئيس فرع بسمعة رهيبة، كانت تثير فزع الناس وتخلع القلوب من الصدور خوفًا، ومن أكثر تلك الفروع شراسة كان فرع الأمن العسكري الذي نتحدث عنه.
أما عن سبب إصراري بألّا يعترف أخي بشيء ارتكبه مهما كانت التهمة، فمرده إلى أن أي اعتراف قد يودي به للسجن العرفي دون محاكمة، وحتى أجل غير معروف، والحقيقة أن حدسي لم يكن دقيقًا، فقد علمت لاحقًا بأن الأصوب هو الاعتراف المباشر، لأنه سيختصر على المواطن سلسلة طويلة من المعاناة التي تبدأ بالترهيب وتنتهي بشتى أنواع التعذيب.
ودعت أخي بعد أن شحب لونه وبدأت شفتاه بالارتجاف، وأيقنت بينما كنت أراقب مشيته المتعثرة من شدة الهلع، بأنه سيقر بأي شيء يفرضونه عليه من أول صفعة، وهذا ما حصل فعلًا.
خرج أخي من الفرع بعد أن تم التحقيق معه بأمر يتعلق بخدمته العسكرية، بعد أن تم تحويله لفرع آخر في دمشق، هو فرع فلسطين الشهير سيئ الصيت. هناك تم احتجازه عدة أشهر قبل أن يخرج فاقدًا نصف وزنه وحاملًا على جلده آثارًا وندوبًا مختلفة كل منها يشير لنوع خاص من العذاب الذي تعرض له.
كل هذه التداعيات تخطر في البال بينما أراقب المظاهرات الاحتجاجية التي تشتعل في محافظة السويداء ضد النظام، مطالبة بالعدالة والمساواة والإفراج عن معتقلي الرأي في سوريا.
حراك يثير في النفس كل مشاعر الابتهاج والقلق في ذات الوقت، حراك شعبي سلمي أنيق، يذكرنا بالشهور الأولى للثورة السورية قبل أن يدمر النظام سلميتها مستخدمًا أشنع أساليب التعسف والاضطهاد.
لقد كشف هذا الحراك بأن هنالك جذوة حياة لا يمكن إطفاؤها في روح هذا الشعب، ولا تحتاج سوى للأكسجين حتى تعاود تأججها.
كما أسقط حجج النظام التي كان يتمترس خلفها مدعيًا بأنه حامي الأقليات الدينية المهددة في سوريا، فلم تعد تنفع هنا حيله التقليدية، ولا ادعاؤه بأن الجمهور المتظاهر متطرف دينيًّا أو مدعوم إقليميًّا.
لكن الأهم من وجهة نظري، أن السويداء في هبتها الأخيرة، قد أسقطت الكثير من المثقفين المتعثرين الذي صمتوا سابقًا خلال سنوات طويلة من الثورة، فامتنعوا عن إعلان موقف واضح من سلوك النظام القمعي، ولم تظهر مواهبهم إلا حينما بدأت الأخطاء بالتراكم، فعمدوا بين الفينة والثانية لاستغلالها كبرهان على صوابية وجهات نظرهم المنتقدة للثورة من أساسها.
أسقطت السويداء الكثير من المثقفين المتعثرين الذي صمتوا سابقًا خلال سنوات طويلة من الثورة، فامتنعوا عن إعلان موقف واضح من سلوك النظام القمعي، ولم تظهر مواهبهم إلا حينما بدأت الأخطاء بالتراكم
هؤلاء وجدوا أنفسهم أمام حراك شعبي نقي لا تشوبه شائبة، محق في توجهه وسلمي في طابعه، فأسقط في يدهم وعادوا لممارسة صمتهم القديم واتخاذ وضع المزهرية.
من ناحية ثانية، كشف الحراك الأخير عن مدى قصر نظر البعض ممن عانى حقًا من تعسف النظام خلال العقد المنصرم، فسن حرابه وأرسل سهامه نحو السويداء بحجة تأخرها عن مواكبة الثورة منذ العام 2011.
قد نتفهم الأمر على نحو عاطفي رغم عدم صوابيته لو أن المحافظة امتنعت عن التنديد بالنظام، أو أن شعارات الحراك المكتوبة والمطروحة غير متوافقة مع آمال الشعب السوري في مختلف بقاع سوريا، أو أن المحافظة بشعبها الطيب لم تتعرض سابقًا وفي بداية حكم الأسد الابن لحملة قمع راح ضحيتها الكثير من المواطنين، لكن ما لا يمكن تفهمه هو الإصرار على ذلك الموقف بعد أن قررت المحافظة أمرها وحسمت موقفها. إذا هو العناد الذي لن يفيد أحدًا سوى النظام في نهاية الأمر.
لهؤلاء نقول، يكاد الأمر يبدو وكأنه حيلة يعتمدها النظام ويعممها على ذبابه الالكتروني، لو فكر بوسيلة ما لإشعال نار الطائفية.
الحجارة السوداء التي تأملتها يومًا ما تنتفض في وجه الفروع الأمنية، والشعب يعيد الكرة مجددًا، ومع كل ما نراه من مظاهر حضارية لا يسعنا سوى أن نهتف معهم، وأن نفتخر بسويدائنا.
