تقع ما بين الحين والآخر جنايات يتورط فيها لاجئون ومهاجرون إلى ألمانيا، وعادةً ما تمر باعتبارها حوادث فردية. لكن في ولاية سكسونيا الأمر يختلف؛ فلا تمر هذه الحوادث مرور الكرام، ويتربص أعضاء جماعات اليمين المتطرف النشطة في هذه الولاية تحديدًا، لمثل هذه الحوادث، لتبدأ أعمال العنف والشغب، والتنديد بسياسات الهجرة واللجوء، باعتبارها "سياسات مضللة". مجلة "شبيغل" الألمانية، وفي تقرير لها، تلقي الضوء على ما تمثله سكسونيا من موجة التطرف اليميني في أوروبا، باعتبارها مرتعًا رئيسيًا لمجموعات اليمين المتطرف والنازيين الجدد. فيما يلي ننقل لكم التقرير مترجمًا بتصرف.
ثلاث مدن في ألمانيا وثلاث جرائم. في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2016، في فرايبورغ، اغتصب طالب اللجوء الأفغاني حسين، طالبة جامعية تبلغ من العمر 19 عامًا، وتركها فاقدةً للوعي على ضفاف نهر غرقت فيه. لأسابيع بعد ذلك، كان هناك شعور واضح بالقلق في المدينة.
الصورة التي صدرها متظاهرو اليمين في كيمنتس بسكسونيا، هي استدعاء لحقبة كان يُعتقد أن ألمانيا تخطتها، حقبة مليئة بالعنصرية والعنف ضد الآخر
شوهدت مظاهرة ضد سياسات الحكومة الاتحادية تجاه اللاجئين، ولكن عدد قليل جدًا فقط خرج في المظاهرة. وبعد ستة أشهر من الجريمة، حُكم على مرتكب الجريمة بالسجن مدى الحياة، وبعد ذلك تبدد القلق. الرسالة هي: تريد فرايبورغ أن تظل مدينةً منفتحة على اللاجئين، على الرغم من هذه الجريمة المروعة.
اقرأ/ي أيضًا: قانون ألماني جديد ضد الكراهية.. والفاشية تحارب من أجل "الحق" في العنصرية!
في 16 آب/أغسطس عام 2018، في أوفنبرغ، وهي مدينة في جنوب غرب ألمانيا بالقرب من الحدود الفرنسية، قام رجل من الصومال يبلغ من العمر 26 عاماً بطعن طبيب عام حتى الموت، أثناء عمله وأمام مساعده. أرجع برلماني من الحزب الشعبي اليميني، "البديل من أجل ألمانيا": "التواطؤ المباشر في وفاة الطبيب" إلى كل من حكومة ولاية بادن فورتمبيرغ، وكذلك الحكومة الفيدرالية في برلين، "بسبب سياسات الهجرة المضللة"، كما قال.
ودعا الحزب إلى اجتماع حاشد حضره بضع مئات من الأشخاص، لكن المظاهرة المضادة كانت بنفس الحجم. في وقت لاحق، نظم نحو 400 شخص -بمن فيهم طالبو اللجوء- مسيرة لإحياء ذكرى الطبيب المحبوب. نشر أحد أقارب الضحية رسالة مفتوحة موجهة إلى سياسي حزب "البديل" يقول فيها إن الطبيب "ساهم في توحيدنا بدلًا من التبشير بالكراهية والاشمئزاز مثلك." خلاصة الرسالة هنا هي: أوفنبرغ ترفض السماح باستغلال الجريمة لأغراض سياسية.
وبعد ذلك، في الثالثة من صباح 26 آب/أغسطس، في مدينة كيمنتس وبولاية سكسونيا شرق ألمانيا، اشتُبه في أن يوسف من العراق وعلاء من سوريا، قاما بطعن رجل ألماني من أصل كوبي يبلغ من العمر 35 عامًا حتى الموت. وبعد ساعات قليلة من الجريمة، سار نحو 800 متظاهر في المدينة، وتهجم بعضهم على أفراد الشرطة، بينما هدد آخرون أشخاصًا يبدو أنهم لاجئون.
وفي المساء التالي، تجمع حوالي ستة آلاف متظاهر من اليمينيين والمتعاطفين معهم. وهتفوا: "سنخرجكم جميعًا"، بينما قام بعضهم بمد أذرعهم اليمنى كما في تحية هتلر. خلاصة الرسالة هنا هي: في كيمنتس، يقود النازيون الجدد ومثيري الشغب رد المدينة على الجريمة.
ثلاث جرائم، وثلاثة ردود فعل مختلفة. هناك أوجه تشابه مثل: الغضب والاشمئزاز، والحزن، والتحيز ضد الأجانب، والسؤال حول ما إذا كانت هذه الجنايات قد تكون مرتبطة بسياسات اللاجئين التي أثارت هذا البلد وقسمته على مدى السنوات الثلاث الماضية أم لا. لكن في فرايبورغ وأوفنبورغ، فإن العقل الواعي له اليد العليا، أولئك الذين يرون الجرائم على حقيقتها، أي حالات فردية. محزنة، بالتأكيد، لكنها ليس النتيجة المباشرة لسياسات الهجرة واللجوء.
وعلى النقيض من ذلك، ففي كيمنتس تم تجميع قوة الإضراب بسرعة، مؤلفة من النازيين الجدد، ومثيري الشغب، وأنصار حزب البديل من أجل ألمانيا، ومن يسمو بـ"المواطنين المعنيين أو المهمومين"، وألقوا باللوم على المهاجرين ككل، وأعلنوا بداية "موسم الصيد" ضدهم.
إن الصور التي قاموا بتصديرها هي استحضار لحقبة اعتقدت ألمانيا أنها قد تخطتها. وهي تذكرنا بالهجمات العنصرية التي وقعت عام 1992 في حي ليشتينهاجن بروستوك، والتي شهدت قيام مجموعة من الغوغاء بإشعال النيران في بيت يسكنه العمال الفيتناميين بينما وقف الجيران يصفقون. عادت الغوغاء، تلك هي الرسالة التي تبعث بها صور كيمنس، تماماً كما كان الحال منذ 26 عاما. لقد تراجعنا إلى الوراء.
ويمكن سماع نبرات الاشمئزاز من تلك الحقيقة في أصوات الكثيرين، من المستشار إلى الرئيس الألماني، ومن رواد الأعمال الألمان إلى المعلقين الأجانب. لقد عاد الوجه القبيح للألمان: العنصريين، كارهي الأجانب، والممتلئون بالغضب. والمنصة الذي يظهر عليها هذا الوجه، مرة أخرى، في سكسونيا. لماذا تكون دائمًا في سكسونيا؟!
باوتسن، فرايتال، هايدناو، کلاوسنیتس، والآن كيمنتس. أصبحت هذه الأماكن مختزلة في مشاهد الحشود الغاضبة، الذين تنكمش وجوههم من الغضب وهم يطلقون شتائمهم ضد اللاجئين أو ضد أنجيلا ميركل. لقد قاموا بمطاردة المهاجرين ومهاجمتهم، وأضرموا النيران في بيوت طالبي اللجوء، وبدا أنهم تخلوا عن الاحترام الإنساني، إلى جانب الجدل المتحضر والنظام السياسي القائم على الديمقراطية التمثيلية. يبدو أنهم يحلمون بنموذج مختلف: قومي، أحادي، استبدادي، ومناهض لليبرالية. جزء منه يشبه ترامب، والجزء الآخر يشبه فيكتور أوربان.
أرض التطرف الخصبة
وبالطبع المتطرفون بعيدون عن كونهم أغلبية في ولاية سكسونيا. لكن أصواتهم في الوقت الحالي أعلى بكثير من الأغلبية. ويظهر تأثيرهم عندما تقرأ الصفحات الخلفية للصحف حيث الإعلانات، فعلى سبيل المثال أعلنت وكالة الإعلانات "Wurzelschläger & Friends"، أنها سحبت عرضها لحملة تصويرية لجذب الشركات إلى لايبزيغ في سكسونيا. وقالت الوكالة في بيان لها: "شعورنا هو أن صورة سكسونيا لا يمكن ترجمتها إلى مقصد عالمي للترويج".
هذه كارثة بالنسبة إلى ولاية سكسونيا، وهي الولاية التي نجحت بشكل ملحوظ، فمن جهة يحقق اقتصادها أداءً جيدًا، حيث يسجل تلاميذ المدارس نتائج جيدة في اختبار "PISA" الدولي الذي يقارن التحصيل العلمي، كما تزدهر فيها صناعة السياحة، ولديها ثاني أقل معدل للبطالة بين خمس ولايات ألمانية شرقية. ومن ناحية أخرى، يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تعاني من أزمة النازيين الجدد.
ولاية سكسونيا هي التربة الخصبة التي انبثقت منها "بيغيدا - Pegida" (وهي اختصار لعبارة وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب)، وهي الجماعة المعادية للأجانب التي تقوم بتنظيم مسيرات أسبوعية ضد المسلمين منذ خريف 2014. ولا تزال المجموعة قوية في سكسونيا، المئات من المتعاطفين لا يزالون يخرجون إلى الشوارع كل أسبوع.
وفي سكسونيا، يتهكم المتظاهرون على المراسلين، كما حدث مؤخرًا في دريسدن، عندما قام موظف، الآن موظف سابق، في مكتب الشرطة الجنائية بالولاية، بمهاجمة فريق تلفزيون من محطة "ZDF" العامة. وسرعان ما أصبحت قبعة الرجل، التي يظهر عليها العلم الألماني، رمزًا للطبقات البسيطة اليمينية التي تنضم إلى مثل هذه المسيرات. لكن منذ ذلك الحين، حلت محله تحية هتلر التي نشاهدها في كيمنتس.
وبالمثل، احتلت الشرطة في ولاية سكسونيا عناوين الأخبار بانتظام متوقع عندما منعت الصحفيين، على سبيل المثال، من القيام بعملهم أو عندما فشلت في حشد عدد كاف من الضباط، مما يجبرهم على الوقوف مكتوفي الأيدي بينما يقوم المتطرفون اليمينيون بالهجوم في الشوارع.
التطرف اليميني ظاهرة قومية وليست ظاهرة ساكسونية. كان هذا هو شعار القيادة السياسية لسكسونيا منذ سنوات، كلما انتشر النقد. نصف هذه العبارة صحيح، ونصفها غير صحيح. أصبحت ولاية سكسونيا أرضًا خصبة لنشطاء الجناح اليميني، مع ترسيخ الهياكل اليمينية بعد فترة وجيزة من إعادة توحيد ألمانيا.
لا يحظى حزب "البديل" بالنجاح في أي ولاية أخرى، فوفقًا لأحدث الدراسات الاستقصائية، يتوقع أن يفوز الحزب بـ26 من 60 مقعد مباشر للولاية في انتخابات العام المقبل. ويخطط ربع الناخبين للإدلاء بأصواتهم لصالح الشعبويين اليمينيين، ليصبح الحزب في المرتبة الثانية خلف الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ (CDU)، وهو حزب أنجيلا ميركل.
صحيح أن التطرف اليميني ظاهرة قومية، لكن لولاية سكسونيا خصوصية معه، فهي أرض خصبة لنشطاء اليمين المتطرف منذ سقوط جدار برلين
من غير الدقيق بالطبع أن نقول بأن مؤيدي "البديل من أجل ألمانيا" لا يختلفون عن مثيري الشغب في الجناح اليميني. لكن لديهم الكثير من القواسم المشتركة، فكلهم يعتقدون أنهم جزء من تمرد ضد الغرب، وضد أحزابه السياسية القائمة وضد "الصحافة الكاذبة". وفي الحقيقة، هو تمرد ضد القيم العالمية الليبرالية لمجتمع مستنير وعالمي. مشاهد كيمنتس هي مجرد أعراض قبيحة لعملية تدريجية من الانفصال.
اقرأ/ي أيضًا: هجمات يمينية متصاعدة على السياسيين في ألمانيا
يقول كريستيان وولف، وهو كاهن سابق في كنيسة سانت توماس في لايبزيغ، على موقعه على الإنترنت، إن العنف في كيمنتس هو "ذروة تطور استمر قرابة 30 عامًا. التنفيذ المنهجي لزرع الأفكار القومية اليمنية والعرقية في الكثير من العقول والقلوب، ورفض الديمقراطية الليبرالية، والكراهية المتشددة للأجانب، وتعليق الحقوق الأساسية - كل ذلك تم بقبول أو حتى بدعم من الحزب الديمقراطي المسيحي في سكسونيا، ويزيد عليه حزب البديل من أجل ألمانيا، وحركة بيغيدا، والنازيين الجدد المحرضين على العنف".
يوسف يطعن دانييل
حتى إذا كنت لا توافق تمامًا على جميع جوانب تحليل وولف، فإنه يجعل المرء يتساءل: ما الذي حدث في شرق ألمانيا، بولاية سكسونيا، خلال 29 عامًا منذ سقوط جدار برلين؟ السؤال ليس جديدًا تمامًا، ولكن يجب أن يُسأل مرة أخرى بعد التصعيد الذي شهدناه في نهاية الأسبوع الماضي.
كانت عطلة نهاية الأسبوع التي أراد فيها شعب مدينة كيمنتس الاحتفال بعيد ميلادها الـ875. وكان المنظمون يتوقعون أكثر من 250 ألف زائر. وقد تم إنشاء ست منصات، ودولاب هواء، وأكثر من 200 جناح. أضاءت قاعة المدينة بأضواء ملونة، بينما كان يغنى مغني الراب ناميكا.
كان دانييل إتش.، 35 عامًا، في المهرجان أيضًا مع أصدقائه. نشأ دانيال في كيمنس، لأب كوبي وأم ألمانية، وكان يعمل في العامين الماضيين في شركة تنظيف. أحبه زملاؤه ويقول أصدقاؤه إنه كان دائمًا في مزاج جيد، ومبتسمًا دائمًا.
في الثالثة صباحا في تلك الليلة، تجولت المجموعة في الشارع المركزي في بروكستراس، على ما يبدو للحصول على المال من جهاز الصراف الآلي. وهنا قابلوا يوسف وعلاء، ودار جدال، ربما تعلق الأمر بالمال، وربما بسبب السجائر، حيث لا تزال الكثير من التفاصيل غامضة، على الرغم من أن الكحول كانت عاملًا محتملًا. ويبدو أن يوسف، الذي يُزعم أنه الجاني الرئيسي، بدأ بطعن دانييل فجأة. وقد مات إثر إصاباته في المستشفى بعد وقت قصير.
يقيم يوسف في قرية ذات منازل نصف خشبية، حيث ترعى الأبقار في الحقول. عاش هناك مع ثلاثة لاجئين آخرين، واحد من سوريا، وواحد من العراق وواحد من إيران، في شقة مشتركة تقع في مسكن متعدد الأسر. كان يوسف لديه غرفة خاصة رغم أنه كان ينام هناك مرتين في الشهر. وعاش في كيمنتس بقية الوقت، على ما يبدو في مكان يخص صديقًا له.
حتى لو لم يعرفوه جيًدا، فإن رفاقه في السكن يصفونه بأنه رجل لطيف يحب الشرب، وأحياناً بشكل زائد عن الحد. جاء يوسف إلى ألمانيا في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2015 عن طريق البلقان، كما فعل الكثيرون من العراق وسوريا خلال ذروة أزمة اللاجئين.
في البداية ، وفقا لملفاته، أراد المسؤولون إرساله إلى بلغاريا لأنهم اعتقدوا أنه قد قدم طلب لجوء هناك. وكانت بلغاريا قد وافقت بالفعل على الطلب. في الواقع، ليس من الواضح لماذا لم يتم ترحيله إلى بلغاريا. وبعد مرور الموعد النهائي في خريف عام 2016، تحملت ألمانيا المسؤولية عنه. وفي مناسبتين، أجرى المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF) مقابلات معه، كان آخرها قبل أسابيع قليلة من مقتل دانييل إتش، وبعد ثلاث سنوات تقريباً من دخوله البلاد.
أخبر يوسف المسؤولين لماذا اضطر إلى الفرار من العراق، ولم يكن الأمر له علاقة بالوضع السياسي هناك. قال إنه وقع في حب فتاة، لكن والدها وعمها لم يكونا راضين عن الوضع. لقد هددوه وضربوه، كما قال، بل وقاموا بجرحه بسكين. وكما صرح لمسؤولي مكتب الهجرة، فقد كانت "مسألة شرف".
لم يعتقد المسؤولون أن القصة كانت ذات مصداقية خاصة. وكان هناك شيء آخر أثار شكوكهم بشأن صدقه، حيث أن اثنان من الوثائق الشخصية التي قدمها كانت "مزورة بالكامل"، وفقًا لفحص مكتب الهجرة. وفي الـ29 من آب/أغسطس عام 2018، رفضت الوكالة طلب اللجوء من يوسف البالغ من العمر 22 عامًا، بعد ثلاثة أيام من الاشتباه في قيامه بطعن دانييل. وكان لدى يوسف بالفعل سجل جنائي. وكانت أول مرة يخالف فيها القانون بعد بضعة أشهر من وصوله لألمانيا، وتكرر الأمر بعد ذلك.
اشتعال الغضب
وقبل حتى مُضيّ خمس ساعات على الجريمة الدموية، نشر موقع الإنترنت الشعبوي "tag24.de" مقالًا تحت عنوان: "وفاة شخص بعمر 35 عامًا بعد أن طُعن في المدينة". وسرعان ما انتشرت الشائعات المتعلقة بالخبر، فقيل بأن دانييل كان يحاول حماية امرأة من الاعتداء الجنسي. وعلى الرغم من أن الشرطة نفت وجود أي دليل على تلك الرواية للأحداث، إلا أن القصة استمرت بالانتشار؛ فهي في النهاية مناسبة تمامًا لنظرة اليمين المتطرف المبتذلة عن اللاجئ المُنقاد وراء غريزته. وهي تُثير الغضب الذي يدفع بالناس إلى الخروج للشوارع.
وحتى قبل صدور أول بيان رسمي للشرطة، نشرت مجموعة الشغب المسماة "مجتمع جديد 2004" أو "New Society 2004" على موقع فيسبوك، دعوة لتنظيم بمسيرة احتجاجية، وهي ما انتشرت بشكل واسع على الإنترنت بجانب شعارات على غرار "مدينتا وقواعدنا" و "دعونا نُظهر من يملك الكلمة الأخيرة في المدينة". وتم تحديد نقطة التجمع بالفعل، وبسبب التظاهرة أُلغي المهرجان.
وتجمّع حوالي 800 شخص في مكان ليس بالبعيد عن موقع الطعن. ودون التنسيق مع الشرطة، انطلقت المسيرة مصحوبة بهتافات من بعض المشاركين مرددةً "نحن الشعب". وبدأت أعمال الشغب، ولم يكن لدى الشرطة ما يكفي من الأفراد، فوقفت عاجزين تمامًا أمام الوضع. طلبوا دعمًا من مدينتي لايبزيغ ودرسدن، ولكن مقاطع الفيديو التي صورت الجموع الهائجة انتشرت بسرعة على الإنترنت. وبدأ النازيون الجدد في تهديد الناس الذين اعتقدوا أنهم من المهاجرين.
ثم دعت مجموعة "Pro Chemnitz" اليمينية إلى تنظيم مظاهرة في المساء التالي، وحشدت ستة آلاف شخص. وسُرعان ما رتبت منظمة "Chemnitz Nazifrei" الرافضة للوجود النازي، مظاهرة مضادة احتشد فيها ألف و500 شخص. ولم يفصل بين مجموعتي المتظاهرين سوى سلسلة هزيلة مكونة من 591 فردًا من عناصر الشرطة. وفي بعض النِقاط، لم يكن هناك أي من ضباط إنفاذ القانون بين الحشدين.
انطلقت الألعاب النارية والقنابل الدخانية في الهواء، وبجانبها تقاذفت أحجار الأرصفة. غطى بعض المشاركين وجوههم لتجنب الكشف عن هوياتهم، بينما قام آخرون برفع أذرعهم اليُمنى بالتحية النازية. ومرة أخرى كانت الشرطة عاجزة تمامًا، ومرة أخرى لم تتمكن من تفريق المتظاهرين. سمحوا للمسيرة بالمضي قُدُمًا لمئات الأمتار عبر وسط المدينة، ونصحوا المهاجرين بالبقاء في بيوتهم.
لم يكن دانييل يمينيًا!
استخدم المتظاهرون اليمينيون ضحية هجوم السكّين كذريعة لإظهار قوتهم. ولكن دانييل لا يتناسب حقًا مع دور الشهيد في القضية اليمينية. فهو، على حد وصف أصدقائه له، مبتهج وحسن الطِباع، وكان يميل لليسار على الساحة السياسية. وعلى فيسبوك، كان معجبًا ببوب مارلي وزعيمة حزب اليسار سارا فاغنكنيخت، بالإضافة لإعجابه بمجموعات مثل "لا حاجة للنازيين". وكتب أحد أصدقاء دانييل هعلى فيسبوك: "هؤلاء اليمينيون الذين يستغلون الحادث، هم نفس الأشخاص الذين كنا نضطر لمحاربتهم لأنهم يؤمنون بأننا لسنا ألمانيين بما فيه الكفاية".
كان هذا الصديق، والذي يُدعى دانييل أيضًا، يعرف دانييل الضحية منذ ما يقرب من 20 عامًا. التقيا في إحدى الحفلات عندما كانا مراهقيْن، واكتشفا أن كلًا من أبويهما قد سُمح له بالالتحاق بالجامعة في ألمانيا الشرقية لكونهما أجنبيان من بلدان اشتراكية.
لطالما كانت مدينة كيمنتس والمناطق المحيطة بها في ولاية سكسونيا، معقلًا لليمين المتطرف منذ إعادة توحيد ألمانيا في التسعينات
كان والد هذا الصديق تنزانيًا، بينما كان والد دانييل من كوبا. يقول الصديق: "كان دانييل من النوع المستعد للقيام بأي شيء من أجل عائلته وأصدقائه. ولم يكن ليرغب أبدًا بقيام هذه الاحتجاجات اليمينية". وهو لا يملك تفسيرًا لقيام معارفه للدعوة للانتقام له. وكما يقول: "هناك أغبياء في كل مكان". لكن ما لاحظه هو العدد المتزايد للأشخاص الذين ينجرفون لليمين، حتى داخل دائرة أصدقائه الخاصة.
كانت مدينة كيمنتس والمناطق المحيطة بها تُمثل معقلًا لليمين منذ إعادة توحيد ألمانيا، حتى وإن كانت وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية، والمتمثلة في مكتب حماية الدستور، تُحصي حاليًا ما بين 150 إلى 200 متطرف يميني فقط في المنطقة. وكان لمنظمة الدماء والشرف (Blood & Honor)، والتي تم حظرها في عام 2000، موطئ قدم في مدينة كيمنتس، وكانت تبثّ الأغاني اليمينية من المدينة إلى المتطرفين في جميع أنحاء البلاد.
كما كانت تلك المدينة هي المكان الذي هرب إليه كل من بيآت تشيب (Beate Zschäpe) وأوفي مندلوز (Uwe Mundlos) وأوفي بونهاردت (Uwe Böhnhardt)، الأعضاء الثلاثة المنتمين لجماعة الاشتراكيون الوطنيون تحت الأرض (NSU) الإرهابية، والتي قتلت 10 أشخاص بين عامي 2000 و2006؛ عندما تواروا عن الأنظار في 1998.
وحتى يومنا هذا، يحتوي المشهد اليميني على متاجره الخاصة في المدينة، كما يقع مقر "PC Records" هناك، وهو أحد أهم العلامات الموسيقية اليمينية المتطرفة في ألمانيا. يقول أولي يينتش، من الأرشيف الصحفي لمكافحة الفاشية في برلين: "يستطيع المرء أن يرى من المشاركين في المسيرات أن التنظيمات القديمة لا زالت تمتلك القدرة على حشد الناس".
كان الأرشيف يقوم بمراقبة اليمين حول ألمانيا لما يقرب من ثلاثة عقود، بما في ذلك الأحداث في مدينة كيمنتس. يقول يينتس إن الطيف السياسي النشط في المنطقة واسع النطاق، "من الموظفين في مجموعة اليمين الجديد اليمينية، إلى الإثنو قوميين، ومن حركة مواطنو الرايخ، إلى حزب المسار الثالث النازي الجديد. لديهم كل شيء".
أما المبادرات التي تسعى لوضع حد للمجموعات اليمينية، فتتعرض لتكسّر زجاج مكاتبها بشكل متكرر. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2016، انفجر جهاز متفجر في نافذة متجر في مركز لوكوموف الثقافي، بعد أن قام بعزف أغنية عن تنظيم "NSU". وفي حي سونينبيرغ بمدينة كيمنتس، حيث يقع مركز لوكوموف الثقافي، أراد المتطرفون اليمينيون قبل بضع سنوات إنشاء "منطقة وطنية محررة"، وهي منطقة تتقيد حصرًا بأيدلوجية اليمين المتطرف!
وعلى مدى عدة أشهر، كانت هناك هجمات على العديد من المقاهي والنوادي، كما اضطُرّت برلمانية منتمية لليسار إلى البحث عن مكتب عمل في مكان آخر، فبعد 20 هجومًا، اضطُر مالك العقار لإلغاء عقدها.
اقرأ/ي أيضًا:
"مواطنو الرايخ الألماني".. ألمانيون يرفضون الاعتراف بانتهاء ألمانيا النازية
ما حقيقة التقارير التي تدعي ارتكاب اللاجئين في ألمانيا لجرائم اغتصاب؟ (2-2)