ثمة نزعة عميقة لدى سلطات الاستبداد العربية في تصنع البراءة أمام حالة الخراب المعمم، التي تعمدت أن تحدثه في ثنايا الجسد الاجتماعي لشعوبها. سواء عبر إشعال فتيل الحرب الأهلية تارة، أوعبر تدمير البنية التحتية للعيش الإنساني تارة أخرى. فكل حاكم أو صاحب سلطة هو بريء بالضرورة كونه صاحب حق في إدارة شؤون الناس الذين يحكمهم، بغض النظر عن الطريقة التي تمكن فيها من الاستحواذ على سلطته، أكان ذلك عبر تزوير إرادة الناخبين أو باتفاق عصابة الحزب الحاكم أو بالانقلاب العسكري.
نجاح الحراك السلمي في الجزائر وفشله في سوريا لا يعني أن الناس في سوريا كانوا متعطشين لحمل السلاح على حساب سلمية حراكهم
تستدعي براءة السلطة الحاكمة إصرارها ليس على عصمة نفسها من الخطأ وحسب، بل والتنصل من المسؤولية، كما لو كان لسان حالهم يتناغم مع القول القائل "الخير كان من عندنا أما الشر فهو من عندكم". المصائب والمحن وويلات التشرد واللجوء التي لحقت بالشعب السوري وفق الرؤية السعودية، الراغبة بالتطبيع مع نظام البراميل الأسدي، هي نتاج الفتنة التي أيقظها حراك الشعب السوري المطالب بالحرية والكرامة والمشاركة في صنع القرار، بينما نظام الأسد وفق رأي وزير الشؤون الدينية مثال للبراءة السلطوية التي لم ولن تلوثها جميع جرائم القتل الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: الحراك الجزائري رفع رؤوسنا بسلميته وحضاريته
ثمة خوف مقيم في أعماق كل رجل سلطة من حراك الشارع أو في اعتصام الناس به، كون كل شارع هو اجتماع لإرادة أناس قرروا الخروج على عصا الطاعة السلطوية وانتزاع حقوقهم بلحمهم ودمهم. يكره السلطوي العربي المدجج بكل أنواع القوة والقمع في الناس العاديين سلميتهم وأفكارهم وشعاراتهم المنظمة، كونه يخاف من قدرتهم على منافسته في تنظيم أنفسهم على نحو عقلاني ومبدع، الأمر الذي يشير إلى عجزه من جهة على خلق هذا النوع من الانسجام ووحدة الحركة في نفوس محكوميه، وإلى فضح دعايته في حاجة الناس إليه لتنظيم اجتماعهم الإنساني على النحو الفاسد والباطل الذي يصر بالسيرعليه. لذا تراه لا يعدم كل وسيلة لضرب الحراك السلمي بأي أسلوب قمع ممكن، سواء من خلال استخدامه لشارع ضد شارع، كما في ظاهرة الشبيحة في سوريا أو ظاهرة البلطجية في مصر، أو من خلال العمل على تسليح الناس من أجل أن يسهل عليه قمعهم وحتى إبادتهم، كما في المثال السوري الذي رفعه النظام السوري إلى مصاف الدرس القاسي والوحشي الذي يجب على كل شعب محتج أن يتوقف عنده، قبل أن يتجرأ على تحدي صلف السلطات الفاسدة و المتجبرة على الناس.
في تخويف الناس من الشارع ومن إمكانية تحوله إلى حرب أهلية، ثمة عقل سلطوي لا يرى للناس أي حق في إدارة شؤون حياتهم اليومية
أثبت حراك الشعب الجزائري المطالب بعدم ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة، أو لدورة رئاسية خامسة، قوة العمل السلمي على تحقيق أهداف سياسية غاية في الأهمية، ليس لناحية إبطال رغبة رئيس يحتضر، أو من ينوب عنه في الاستمرار بالحكم، وإنما لناحية أن الشارع، أي الناس لديهم القدرة كما الحق في تقرير مصيرهم السياسي بأنفسهم.
إن نجاح الحراك السلمي في الجزائر وفشله في سوريا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الناس في سوريا كانوا متعطشين لحمل السلاح على حساب سلمية حراكهم، وإنما يعكس أن السلطة في الجزائر لم تركبها العزة بالأثم كما في نظام الأسدي السلالي، وقررت التصالح على نحو أو آخر مع الناس، ولولا ذلك لرأينا كيف كان يمكن أن يتحول الحراك السلمي للجزائريين إلى عنف لا يبقي ولا يذر، على يد السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاث خواطر من داخل الحراك السّلميّ في الجزائر
في تخويف الناس من الشارع ومن إمكانية تحوله إلى حرب أهلية، ثمة عقل سلطوي لا يرى حقًا للناس في إدارة شؤون حياتهم اليومية، مثل حقهم في أن يكونوا سلطة رقابة على حكامهم عندما تتعطل السلطات الرقابية في الدولة التي يعيشون فيها. السلطويون، سواء كانوا من رجال السياسة أو إعلاميين أو مثقفين، استنفدوا طاقتهم البلاغية والتحليلية بقصد جعل كل احتجاج جماهيري ضد سلطة مستبدة مغامرة، أو مؤامرة تستهدف الدولة بمفهومها السياسي المتعارف عليه في تعريفات الأمم المتحدة كحام للنسيج الاجتماعي، متناسين عمدًا أن أصل كل خراب في البنية الاجتماعية مرده سياسة النخب الحاكمة التي لا توفر جهدًا في خلق الولاءات والعصبيات التي تحفظ لها سلطتها الاستبدادية، القائمة على النهب وتدمير بنى وقواعد الاجتماع الإنساني.
اقرأ/ي أيضًا:
تعتيم إعلامي على حراك الشعب الجزائري.. الرد في الشارع وفيسبوك