لم تتلق إسرائيل مجريات الربيع العربي بسعادة، بل نزل عليها كالصاعقة، وسرعان ما بدأت تتحرك ليس لوقف الموجة الثورية والحد من أثرها وحسب، بل لتوجيهها إلى مسارات لا ضرر فيها.
ومن أكثر ما يتذكره المرء من تلك المرحلة هو بداية العمل بشكل جاد وحاسم على اختراق إسرائيل للوعي العربي، وظهرت وقتها صفحة على فيسبوك بعنوان "إسرائيل تتكلم بالعربية"، ولاقت الصدى المطلوب، وتزامن ذلك أيضًا مع تحول أفيخاي أدرعي من وجه إعلامي يقدّم وجهة نظر الأعداء إلى شخص يخاطب العالم العربي، ويريد إرشاده إلى جادة الصواب الأخلاقي، وإقناع ضحايا جيش دولته المتوحشة، الذي يتحدث باسمه، أن هزيمتهم راسخة وغير قابلة للتغيير، وأن قبول عارهم والعيش معه أمر طبيعي.
منذ بدأت تلك الأيام، كان واضحًا أن المشهد لن يفضي إلى خير، فليست إسرائيل من تجرّب في هذه الأمور، إنما هي من تتصرف بعد أن تستقرئ، ومن ثم تخرج بالأدوات الملائمة للمرحلة.
ومع انكفاء الثورات، أو تحولها إلى حروب أهلية، بدت دولة الاحتلال جاهزة لتقدم روايتها لنا، وبدأنا نراجع تاريخنا، في الجو الذي يلائم أن يصل فيه الناس إلى النتيجة التي تريدها إسرائيل بالضبط.
من الرهيب أن تحل الذكرى السنوية الأولى لمأساة الإبادة في غزة ونحن نرى عربًا يرون بنيامين نتنياهو بطلًا ومُخلّصًا، والأكثر رهبة هو أن عقد الثورات انتهى إلى أن صارت "إسرائيل تتكلم بالعربية" فعلًا
ضربت غزة عام 2014، وكان التضامن العربي معها في حدوده الدنيا منذ زمن طويل، واعتبر الأمر جزءًا من مشهد عربي فاشل، قائم على الاحتراب والتطاحن العنيف، باستثناء أن إسرائيل هي الوحيدة الناجحة فيه بين دول فاشلة، وماضية بدأب وإصرار إلى مزيد من الفشل والإخفاق، ومن ثم التلاشي، ولأن ذلك أيضًا مقصود، كان على من يشاهدون أن يعجبوا بدولة تحافظ على استقرارها رغم خوضها الحروب العصيبة لأجل مواطنيها، في حين تزداد الدول العربية ضعفًا وهشاشة وهي تفتك بمواطنيها.
وضع الأمور في هذا السياق خدم كثيرًا تصوير إسرائيل كقوة مستقرة، ما يمكنه أن يساهم لاحقًا في منحها الشرعية التي تسعى إليها.
إلى جانب هذا، كانت دول الثورات المضادة تفكر بالمشهد بطريقة أخرى، خصوصًا بعد سقوط الإخوان في مصر، فراحت تعيد حساباتها، رأت أن الاستقرار أهم من التغيير غير مضمون العواقب، ومن ثم بدأت بدعم كل من يقف ضد الحركات الثورية، حتى لو عنى ذلك التقرب إلى إسرائيل أو تجاهل القضية الفلسطينية. وضمن هذه المقاربة بات توجيه العداء ينصب على إيران فقط. وجرى الاستعانة بالإنترنت والسوشيال ميديا بشكل أكثر كفاءة، فراحت ظاهرة الذباب الإلكتروني تعمل على تكريس الرأي العام الذي يتناسب مع هذا التوجه السياسي، ودخلنا في مرحلة من القمع العنيف، وساد الإعدام الجماعي لكل صوت لا يغرد ضمن الجوقة.
وبما أننا نتحدث عن أربع أو خمس سنوات من زمن الثورات، فهذا يعني صعود داعش والرعب الجنوني الذي بثّه في أصقاع العالم. وهذا يعني أيضًا تفاقم الأزمة الأوكرانية، خصوصًا بعد هزيمة ثورة الميدان الأوكراني عام 2014، واتجاه المؤشرات كلها إلى الصدام مع روسيا بوتين، وكذلك في العمل على إيقاف تقدم الصين، يحدث هذا كله وإسرائيل تحوّل غزة في ذلك الوقت إلى معرض حي لبيع ما تنتجه على صعيد الأسلحة والتكنولوجيا الحربية.
تصاعد الأزمة في أوكرانيا إلى درج المواجهة العسكرية منح الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، فرصةً للحد من نفوذ روسيا بطرق متعددة، شملت حتى الجوانب الثقافية والرياضية. ومثّلت إزاحة روسيا مقدمةً للتعامل مع التحدي الأكبر الذي تمثّله الصين، ولا تزال الدوائر تدور، وأدى ذلك إلى تراجع الاهتمام بمشرق العالم العربي لصالح تلك الأولويات. ولهذا تُركت مسؤولية التعامل مع المنطقة على عاتق إسرائيل، شرطي الغرب عندنا.
ومع الإشارة إلى ان كل هذا يجري والمنطقة تغرق أكثر وأكثر في مستنقع طائفي مقزز، سيجعل من قبول الناس أعلى لمراجعات بخصوص القضية الفلسطينية، التي يمكن أن تُشيطن ببساطة وتغدو كارثة على الدول العربية، التي فوّتت على نفسها فرص التنمية والازدهار لانشغالها بهذه "القضية العبثية"، بدلًا من التحالف مع إسرائيل وإنهاء الصراع الناتج عن حسابات سياسية خاطئة فقط.
فرح العالم عند إطلاق اتفاقيات التطبيع التي رعتها أمريكا ترامب، وبدت تلك اللحظة نوعًا من هزيمة نكراء لحلم شعوب المنطقة العربية في أن يمتلكوا زمام أمورهم.
غرقنا في الإحباط، وساد الشعور بلا جدوى أي شيء. ووصل احتقار الذات إلى الحد الكافي لقبول مقولات تأثيم تجربة الثورات، وتاريخ مقاومة إسرائيل، والنظر إلى كل ذلك بعين جديدة تعبّر عنها هذه المرة منصات تتحدث عن أوضاع جديدة مصنوعة من الرفاه والتنمية الاقتصادية، بدلًا من الحروب والدماء التي لم تجلب لنا سوى الخراب. وبهذا المنحى، فإن إسرائيل تتكرّم علينا بقبول الاتفاقيات والتحالفات الجديدة.
صار عاديًا أن نرى سفيرًا عربيًا في دولة الاحتلال يردّد مقولات الأبارتهايد، وأن نقرأ في بيانات خارجيات دول شقيقة ما يُبشّر بـ"عالم جديد شجاع"، دون تساؤلات حول حقوق الشعب الرازح تحت الاحتلال، أو اللاجئين الذين ضاعت آمالهم منذ ثلاثة أرباع القرن.
السياق السياسي الإقليمي الذي طبعته حالة من تهميش للقضية الفلسطينية، سواء بسبب انشغال بعض الدول بمآسٍ أو إشكاليات داخلية، أو نتيجة مخططات التطبيع التي هدفت إلى إعلاء شأن الرفاه والتنمية، والتضحية بحقوق المقهورين لصالح "بزنس" القاهرين، مع الوضع العالمي المشغول بإعادة ترتيب الخرائط الجيوسياسية مجددًا.
هنا قام طوفان الأقصى وأوقف المخططات المرسومة للمنطقة، وفق المصالح الإسرائيلية ومن يشاركها من دول المنطقة أو الغرب. وكان وقع المفاجأة كبيرًا، وهنا اتخذ الرد الإسرائيلي طابعًا دمويًّا، ومارست الإبادة بحق الفلسطينيين في غزة لأنّ الطوفان أفشل كل هذه الرؤية السياسية لرسم خارطة سياسية جديدة للمنقطة.
من الرهيب أن تحل الذكرى السنوية الأولى لمأساة الإبادة في غزة ونحن نرى عربًا يرون بنيامين نتنياهو بطلًا ومُخلّصًا، والأكثر رهبة هو أن عقد الثورات انتهى إلى أن صارت "إسرائيل تتكلم بالعربية" فعلًا.
يبقى الحلم بتحرير فلسطين حيًّا ما دام فينا من هم قادرون على حمله. لذا يبقى الوقت مناسبًا دائمًا لإعادة النظر في مساراتنا، واستعادة ترميم وعينا الجمعي المقاوم، فهنا يكمن سرّنا الذي لا يمكن للقنابل النووية أن تهزمه.