"لي في هذا العالم أصدقاء قساة. خطفوا طائرات. احتجزوا رهائن. زرعوا عبوات. زوّروا باسبورات وتحايلوا على المطارات. اختاروا أسماء مستعارة وعاشوا في ظلها. تمردوا على النظام وطاردوا "العدو في كل مكان". وعادوا من الرحلة. هذا أصيب في روحه وقهرته الأيام. وذلك أصيب في جسده ويعيش مع الأدوية والذكريات. وثالث دفن على بعد آلاف الأميال من التراب الذي كان ينادي". هذا ما جاء في مقدمة كتاب غسان شربل الموسوم بـ"أسرار الصندوق الأسود".
كانت تجربة عمل المجال الخارجي من أكثر تجارب الثورة الفلسطينية التي يكتنفها الغموض بسبب أسلوب العمل السري
لقد كانت تجربة عمل المجال الخارجي من أكثر تجارب الثورة الفلسطينية التي يكتنفها الغموض، إذ لا نملك عن تفاصيلها الكثير، فقد لجأ المجال الخارجي إلى أسلوب العمل السري، فهو يرى في الظاهرة العلنية إحدى نقاط الضعف التي أصبحت السمة العامة للثورة الفلسطينية.
اقرأ/ي أيضًا: حنا ميخائيل.. تاريخ لا يمضي
منذ العام 1968، وهي السنة التي نفذت فيها أول عملية عسكرية للجبهة الشعبية ضد الأهداف الإسرائيلية، وذلك بالسيطرة على طائرة شركة العال بوينغ 707 من مطار روما، وتغيير اتجاهها إلى مطار الجزائر، مرورًا بعمليتي الهجوم على طائرات العال في مطاري أثينا وزيورخ، إلى عملية مطار الثورة بعمان، وعمليات مطاري اللد وعنتيبي، أيضًا عمليات العبوات الناسفة والحارقة على المؤسسات الاقتصادية المرتبطة بالحركة الصهيونية في أوروبا، إلى عمليات الهجوم بالقنابل على سفارتين إسرائيليتين في كل من بون ولاهاي، وعملية الهجوم على مكتب شركة العال في بروكسل.. كلها كانت التطبيق الفعلي لمقولة قائد المجال الخارجي الدكتور وديع حداد: "وراء العدو في كل مكان".
جرفت الروح الثورية، التي كانت سائدة في سبعينيات القرن الماضي، عبر إمكانية تغيير العالم بقوة السلاح العديدَ من الشباب الفلسطيني الحالم في الانضمام إلى الثورة الفلسطينية، إذ كانت تجربة عمل المجال الخارجي من أهم المحطات البارزة التي تركت بصمتها وأثرها.
في العام 1977، كانت آخر فصول تلك التجربة، أربعة من الفدائيين شاركوا في عملية خطف الطائرة الألمانية من طراز بوينج 737 في رحلتها المتوجهة من مطار مايوركا إلى فرنكفورت. كانت مطالب الفدائيين من هذه العملية: 1- مساندة منظمة الجيش الأحمر الألماني (بادر ماينهوف) 2- تصعيد الضغط على الحكومة الألمانية ما لم يطلق سراح قادتها من السجون الألمانية.
بالإضافة إلى المطالبة بالإفراج عن فلسطينيين وأجانب يساريين معتقلين في تركيا.
كانت وجهة الطائرة المختطفة مطار عدن، لكن لظروف داخلية بالبلد لم تمكث الطائرة مطولًا هناك وتحولت وجهة الفدائيين النهائية إلى مطار مقديشو في الصومال.
تتحدث سهيلة أندراوس السايح عن نفسها: "ولدت في ربيع العام 1953، كأي فتاة فلسطينية. لكن كان لدي شعور بالذنب لأنني لم أولد في مخيم كبقية أطفال شعبي"
أطلق على المجموعة اسم "حليمة" نسبة للاسم الحركي للشهيدة الألمانية بريجيت كولمان، التي استشهدت في عملية مطار عنتيبي عام 1976.
اقرأ/ي أيضًا: في السؤال عن الأرشيف الفلسطيني.. من هم الذين تُخيفهم هذه الذاكرة؟
أعطى الرئيس الصومالي سياد بري بعد مفاوضات استمرت خمسة أيام، الضوء الأخضر باقتحام الطائرة من قبل فرقة كومندوس ألمانية إنجليزية. أوفد وديع حداد في اليوم التالي للعملية مندوبًا له لمقابلة سياد بري، الذي كان صديقًا شخصيًا له، وذلك لمحاولة فهم ما جرى، فكان الجواب: "إنهم أولادي.. لقد بعتهم في صفقة"!
استشهد ثلاثة من الفدائيين وهم قائد العملية زهير عكاشة ونبيل حربي ونادية دعيبس، وأصيبت سهيلة السايح بعشر طلقات نارية، ظهرت في تقارير مصورة ترفع شارة النصر وهي على النقالة رغم إصابتها البليغة.
وضعت ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻴﺔ على الصفحة الأولى ﺼﻮﺭﺓ ﺳﻬﻴﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻤﺎﻟﺔ ﺭﺍﻓﻌﺔ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺍﻟﻨﺼﺮ ﻭﻓﻮﻗﻬﺎ ﻛُﺘﺐ: ﺭﺍﺑﻌﺔ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ!
تتحدث سهيلة أندراوس السايح عن نفسها: "ولدت في ربيع العام 1953، كأي فتاة فلسطينية. لكن كان لدي شعور بالذنب لأنني لم أولد في مخيم كبقية أطفال شعبي، اختار أهلي مدرسة راهبات المحبة في بيروت لدراستي. هناك تفتحت عيناي على التربية والنظام والاحترام، في العام 1964 سافر أهلي إلى الكويت كمعظم الفلسطينيين الذين كانوا يسافرون للعمل، إذ عشت حياة سعيدة ومريحة، وكنت متأثرة بدراستي في مدرسة الراهبات، وكان هدفي الأول أن أصبح راهبة. في العام 1967 بلغت قمة هذا الإحساس، ولكن مع احتلال مدينة القدس، تبخرت كل أمنياتي في أن أصبح راهبة بسبب الإسرائيليين. كان وعي الفلسطيني في كل تلك السنوات، ينمو ويكبر على حب الأرض. لم يكن فهمًا سياسيًا، بل عاطفيًا ووطنيًا، فمن حكايات جدي وجدتي كنت أتخيل لو سمحت لي الظروف في الذهاب إلى فلسطين، فسأكون قادرة على الوصول إلى منزلنا في حيفا. لكني لم أكن مسيّسة. أنهيت دراسة الثانوية العامة في الكويت بتفوق، إذ فزت بالمرتبة الثالثة في العام الدراسي 1972 – 1973 في الكويت كلها".
اعتقلت سهيلة أندراوس في 1994 في أوسلو، وذلك بطلب من محكمة ألمانية. وبعد مداولات استمرت أشهر، رُحّلت إلى ألمانيا، حيث تمت محاكمتها والحكم عليها بالسجن 12 سنة
ثم تضيف: "في العام 1974، دخلت الجامعة اللبنانية لدراسة الأدب الإنجليزي، ومع بداية الحرب في لبنان، بدأت من خلال اختلاطي بزملاء الدراسة والأصدقاء، بقراءة كتب أيديولوجية بشكل عام، واخترت موضوعي للدراسة في الجامعة عن تاريخ فلسطين. شرعت في زيارة المخيمات والتعرف على الطريقة التي يعيش بها أبناء شعبي، كانت المرة الأولى التي أرى فيها أطفالنا يقتلون. طلب مني أهلي في العام 1976 العودة إلى الكويت حيث الرفاهية والحياة المترفة. كنت مهتمة بسماع الأخبار وقراءة الصحف وتتبع أخبار زملائي على مقاعد الدراسة، بعضهم كان يقاتل ويقتل. وعندما وصلت إلى حالة نفسية سيئة حاولت أن أعمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني في جمع التبرعات، بعد مذبحة تل الزعتر قررت أن أصبح راهبة في أحد الأديرة، لكنني في الأخير قررت الانضمام إلى تنظيم وديع حداد عن طريق أحد الرفاق بالكويت لأنتقل لاحقًا إلى بغداد لمتابعة الدراسة والتدريبات العسكرية، إذ اختاروا اسم حركي ثريا الأنصاري".
اقرأ/ي أيضًا: جورج حبش.. درس عربي لا ينتهي
ﺣﻜﻢ على سهيلة في ﺍﻟﺼﻮﻣﺎﻝ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ 20 ﺳﻨﺔ، ﻭﻟﻜﻦ أﻃﻠﻖ ﺳﺮﺍﺣﻬﺎ بعد سنة ﻷﺳﺒﺎﺏ ﺻﺤﻴﺔ، وبعد شفائها قرّرت أن تعود إلى حياتها الطبيعية فأتمت دراستها وحصلت على درجة الماجستير، وتزوجت من الكاتب والصحفي الفلسطيني أحمد أبو مطر، بعدها انتقلت وزوجها من لبنان إلى عمان ودمشق ولارنكا، واستقر بهما المقام في النرويج العام 1991.
اعتقلت في 1994 في أوسلو، وذلك بطلب من محكمة ألمانية. وبعد مداولات استمرت أشهر، رُحّلت إلى ألمانيا، حيث تمت محاكمتها والحكم عليها بالسجن 12 سنة، بقيت هناك إلى العام 1997 ومن ثم سمح لها بإكمال محكوميتها في سجن نرويجي لأنها تحمل الجنسية النرويجية. أطلقوا سراحها العام، 2000 أي بعد 6 سنوات من السجن لأسباب صحية.
وفي رواية متداولة أن جهات فلسطينية كردّ فعل على مقالات زوجها أحمد أبو مطر، التي يتناول فيها بعضا من أسرار منظمة التحرير إبان تواجد الثورة في لبنان، والممارسات المشبوهة التي وقعت هناك، هي من بلغت الألمان والنرويجيين عن الاسم الحقيقي لسهيلة، وكشفوا عن هويتها.
التزمت سهيلة رغم الظلم والاضطهاد والخذلان الصمت.
من الأحاديث النادرة التي جاءت على لسانها: "لست نادمة على شيء، لكنني نضجت أكثر، هناك وسائل أخرى لخدمة القضية".هي لا تتنكر إلى ماضيها الثوري، لكنها تعي أنها تركت وحيدة في معركتها الأخيرة. تغيرت المفاهيم، إذ أصبح العدو صديق والفدائي محاصرًا ومطاردًا، حتى ماضيه يلاحقه. هذا ما جناه اتفاق أوسلو وما جنته القيادة على شعبها.
لا شيء يشعرك بفداحة ما حصل وأنت تقرأ ما كتبته سهيلة. أمام الخيارات المعدومة "لقد تخلصت من جميع أسلحتي أو بالأحرى فقدتها. لن أقاوم رغبتي القوية بالاستسلام".
لا شيء يشعرك بفداحة ما حصل وأنت تقرأ ما كتبته سهيلة أندراوس أمام الخيارات المعدومة "لقد تخلصت من جميع أسلحتي أو بالأحرى فقدتها. لن أقاوم رغبتي القوية بالاستسلام"
حالة الانكسار التي طال أمدها ما هي إلا تعبير عن الهزيمة القاسٍية، التي تكاد تقتل كل شيء، أجساد استسلمت أمام هذه الموجة العنيفة والردة القوية، لكن يبقى الأمل ويتجدد ولا يموت، هناك إرث كبير تستند عليه التجربة، وإصرار عند هذا الشعب على التمسك بحقه، مع حلم كل طفل في أزقة المخيم بالعودة، مع صمود كل أسير، مع صبر كل أم شهيد، مع شجاعة مقاوم.
اقرأ/ي أيضًا: أنيس صايغ.. أرشيفٌ لفلسطين
إنه الفلسطيني هذا الطير المهاجر الذي يغيب مع تغير الظروف لكنه يعود، وسهيلة مثل الطيور المهاجرة تعيش وحيدة، بعيدة، منعزلة، لكنها ستبقى في الذاكرة الفلسطينية رابعة الأربعة، وخاتمة مسيرة الراحل وديع حداد.
اقرأ/ي أيضًا: