في غضون أسبوعٍ، أو أقل، وجد السوريون أنفسهم أمام أحداثٍ عصيةٍ على الفهم لشدة فظاعتها، وقسوة ما ترتب عليها من ألمٍ لم يكن بوسعنا، أو بوسع بعضنا على الأقل، فهمه والتعامل معه. ألمٌ يضاف إلى آلامٍ أخرى ظننا أننا أصبحنا، بعد عيشها والعيش في ظلها لأكثر من عقد، مؤهلين للتعامل مع ما يستجد منها. فالافتراض هنا أن اختبار الألم يمنحنا القدرة على استيعاب المزيد منه.
ما يقال عن اللجوء والحرب وبقاء النظام وجرائمه والمعتقلين أيضًا، يقال عن مختلف تفاصيل حياة السوريين خلال السنوات العشر الأخيرة، خاصةً المهجّرين منهم
لم يكن بوسع هذه الفرضية أن تصمد أمام أهوال مجزرة حي التضامن، وقسوة مشاهد انتظار مئات السوريين للمعتقلين الذين أفرج عنهم جزّار سوريا، مؤخرًا، على أمل أن يكون أباؤهم وأبناؤهم، أو أحد أقاربهم وأصدقائهم، بين هؤلاء الذين انتظرهم البعض لعلهم يجدون لديهم خبرًا عن غائبٍ ما، حدث أن صادفه أحدهم في مسالخ النظام. فالألم الذي ترتب على هاتين الحادثين بدا، لسببٍ أو لآخر، فريدًا في قسوته بالنسبة إلى شعبٍ عاش سنواته العشر الأخيرة، ولا يزال، محاطًا بمختلف أشكال الألم والقسوة.
وفي ضوء انشغال السوريين بمجزرة حي التضامن، والمشاهد المأساوية القادمة من دمشق لمعتقلين نجا بعضهم من سجون النظام، لا من آثارها، وخرج بعضهم الآخر منها فاقدًا للذاكرة، تحدّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال افتتاح وزير داخليته سليمان صويلو قرى سكنية من الطوب لتحل محل المخيمات المنتشرة على عرض ما تبقى من مناطق محررة، عن خطة لإعادة نحو مليون لاجئٍ سوريٍ، طوعًا، إلى المناطق الآمنة في شمال سوريا. ولا حاجة إلى التذكير هنا بأن هذين المصطلحين؛ "طوعًا" و"آمنة"، لا يحيلان في سياقنا هذا إلى غير نقيضهما.
تثير خطة أردوغان أسئلة مختلفة حول مستقبل اللاجئين السوريين في بلاده وغيرها من دول اللجوء الأخرى، وخاصةً في لبنان التي لا تقل أوضاعهم فيه سوءًا عما هي عليه في تركيا، التي تشهد تصاعدًا مخيفًا في خطاب الكراهية والممارسات العنصرية بحقهم على خلفية اقتراب الانتخابات النيابية والرئاسية فيها. كما أنها تشير أيضًا، في الوقت نفسه، إلى عدم وجود حلولٍ قريبة تضمن عودتهم إلى مدنهم وقراهم، مقابل أخرى ترجّح إعادة بعضهم إلى المناطق المحررة التي تضيق أصلًا بملايين النازحين، الذين توحي خطة أردوغان بأن إقامتهم في المخيمات، بصرف النظر عن شكلها، لا تزال طويلة.
ومع ذلك، يرى البعض، وهم كثر، بأن إقامتهم هذه تبقى أمرًا مؤقتًا، بالمعنى القريب طبعًا، حتى وإن تبدل شكلها وتغيرت مسمياتها أيضًا. الأحرى أن هذا ما يوهمهم به الأمل الذي دلت الأحداث السابقة، كل بطريقتها، على أن حياتنا، أو حياة بعضنا على الأقل، تقوم عليه وعلى فكرة أن كل ما نعيشه إنما هو مؤقت.
بل أكثر من ذلك، أن حياتنا ما بعد آذار/ مارس 2011 هي، بأكملها، مؤقتة. اللجوء والنزوح هما مؤقتان أيضًا، ومعهما الحرب وبقاء النظام وإفلاته من العقاب على جرائمه، وكذا غياب المعتقلين الذي يتعامل بعضنا معه على أنه شأنٌ مؤقت، والدليل هو الحشود التي تجمهرت في دمشق تنتظر من أوهمهم الأمل بأنهم عائدون لا محالة، ذلك أن غيابهم لا بد أن يكون مؤقتًا بدوره.
وما يقال عن اللجوء والحرب وبقاء النظام وجرائمه والمعتقلين أيضًا، يقال عن مختلف تفاصيل حياة السوريين خلال السنوات العشر الأخيرة، خاصةً المهجّرين منهم. فعلى سبيل المثال، يتشارك السوريون في المنطقة التي أعيش فيها، على اختلافهم واختلاف أوضاعهم المادية، قناعة راسخة مفادها أن عودتهم قريبة بما يكفي ليكون الاستقرار ضربًا من ضروب العبث، وأمرًا لا طائل منه.
تشارك السوريون، على اختلافهم واختلاف أوضاعهم المادية، قناعة راسخة مفادها أن عودتهم قريبة بما يكفي ليكون الاستقرار ضربًا من ضروب العبث، وأمرًا لا طائل منه
وبما يكفي أيضًا لتكون حياتهم، بمختلف تفاصيلها، مؤقتة سواءً لناحية المسكن والأثاث وطبيعة الحياة ذاتها ونمط العيش، الذي يوحي بأنهم على وشك العودة. أو هذا ما يقوله الأمل الذي يحول بيننا وبين عيش حياةٍ طبيعية مستقرة، حتى وإن لفترة مؤقتة. فالاستقرار هنا يتعارض مع ما يمليه الأمل عليهم، ويقلل من شأنه، وينفي أن تكون حياتهم، في اعتقادهم، مؤقتة بالمعنى الذي يحيل إلى عودة قريبة، بل قريبة جدًا.
لا يسمح لنا الأمل إذًا بمواصلة حياتنا بشكلٍ طبيعي، فما يوهمنا به الأمل هنا أن حياتنا ذاتها توقفت، مؤقتًا، مع بداية الحرب وما ترتب عليها من تهجيرٍ ونزوح، وأنها ستُستأنف بعد نهايتها. وهذا بالضبط ما يفسر رفض البعض عيش حياةٍ مستقرة لا يرى فيها ما يراه في تلك المؤقتة التي تجعله قريبًا من العودة، تمامًا كما لو أنها ستحدث غدًا. وبينما يحدث هذا كله، تمضي الحياة غير مبالية بما نشعر، ونعتقد، ونتوهم.
لذلك جاءت الأحداث الأخيرة لتضعنا أمام حقيقة أن ما نظنه مؤقتًا سيبقى كذلك، لكننا لا نعرف إلى متى. استبدال الخيمة ببيتٍ من الطوب، بدلًا من إعادة اللاجئين إلى بيوتهم، يوحي بذلك. وكذا الحديث عن إعادة نحو مليون لاجئٍ سوريٍ من تركيا إلى المناطق التي يزعم البعض أنها آمنة. وخروج بعض المعتقلين فاقدين للذاكرة مؤخرًا، يفعل الأمر نفسه، بل ويضعنا أيضًا أمام ما يرفضه بعضنا، وهو أن لا شيء سيعود إلى سابق عهده بعد انتهاء الحرب، لا الناس ولا البيوت.. ولا حتى أعمارنا.