لم يترك سورين كيركغارد (1813-1855) أيّ سيرةٍ ذاتية له قبل وفاته. الفيلسوف الدنماركيّ المُربك والمُثير للجدل وفقًا لدارسيه وقرّائه والمُختلفين معهُ ممن وصفوه بأنّه "ضدُّ فيلسوف"، غادر عالمنا في الثانية والأربعين من عمره، دون أن يتاح لهُ أن يَخطّ سيرته الذاتية بقلمه، ولكنّه في المقابل ترك خلفهُ لمن يريد أن يتصدّى لهذه المهمّة ما يُسهِّلها عليه: يوميات وأوراق شخصية ومواد خامًا جُمعت في ثمانية عشر مجلّدًا ضخمًا أُضيفت إلى أربعة عشر مجلّدًا ضمّ أعماله الموزّعة على مواضيع مُختلفة، كالجمال والأخلاق والإيمان والنقد الأدبيّ والفلسفة وغيرها.
ترك سورين كيركغارد خلفهُ يوميات وأوراق شخصية ومواد خامًا جُمعت في ثمانية عشر مجلّدًا ضخمًا
سهّلت يوميات الفيلسوف الدنماركيّ على أستاذ الفلسفة في جامعة كوبنهاغن الدنماركية يوكيم غارف من المهمّة التي حملها على عاتقه لسنواتٍ طويلة قضاها مُقتفيًا أثره، ومُطاردًا كلّ ما يتعلّق بتفاصيل وأسرار حياته القصيرة، قبل أن يُعيد صياغتها ليشكّل منها سيرة ذاتية صدرت سنة 2005 عن "مطبوعات جامعة برنستون" بعنوان "سيرة حياة سورين كيركغارد".
اقرأ/ي أيضًا: نيتشه.. فلسفة التخفّي
تَحت العنوان نفسه، أصدرت "دار المدى" حديثًا الطبعة العربية لسيرة كيركغارد التي نقلها عبد الله النعيمي (1945-2019) إلى لغة الضاد، لتكون سيرة الفيلسوف الدنماركيّ الذي يُعرف بأنّه مؤسّس الفلسفة الوجودية المعاصرة قبل كلّ من مارتن هايدغر وجان بول سارتر، وكذا الممثّل الأكبر للتيّار الوجوديّ المسيحيّ الذي يتمايز بطبيعة الحال عن التيّار الوجوديّ الإلحاديّ للثنائيّ الألمانيّ والفرنسيّ؛ في متناول القرّاء العرب.
يُقدّم يوكيم غارف في مستهلّ كتابه سورين كيركغارد فيلسوفًا تميّز بخروجه عن الأنساق المعروفة، وبكونه أيضًا لاهوتيًّا رافضًا لدوغمائية الإيمان الكنسيّ، وناقدًا أدبيًّا لم تمنعهُ اشتغالاته في حقل الفلسفة والإيمان من التمعّن في الأدب، ومفكِّرًا جعل من الفرد محور اهتماماته، فجاء كلّ ما أنجزهُ فلسفيًا وأدبيًا متمحورًا حول الذات والهوية الشخصية للكائن البشريّ الذي يعتبرهُ وعلى العكس من هيغل تمامًا، أساس الفلسفة، متصدّيًا هنا للمقولات التي تقول إنّ أساسها هو التاريخ الموضوعيّ أو العالم الخارجيّ المعزول عن ذاتية الأفراد.
الكتاب الذي جاء موزّعًا على أكثر من 900 صفحة من القطع المتوسّط يسعى غارف عبرهُ إلى الإجابة على سؤال "من" هو كيركغارد بالضبط؟ بالنسبة إليه، تتطلّب الإجابة على هذا السؤال عودة ضرورية إلى ميكائيل بيديرسين، والد سورين كيركغارد الذي نعرف من خلاله أن أصل لقب العائلة يعود إلى عمله راعيًا في مزرعة تسمّى "كيركغارد"، وأنّه عندما كان في الحادية عشر من العمر، شتمَ السماء والدين المسيحيّ لأنّه ولد فقيرًا يمضي جلّ وقتهِ في رعاية الأغنام وحمايتها.
استعاد والد كيركغارد اليوم الذي لعن فيه السماء وشتم دينهُ ودين أبائه وأبناء جلدته، في المرّة الأولى، حينما أصبح غنيًّا بفعل عمله في التجارة التي عادت إليه بمردودٍ ماليّ ضخم كان كافيًا لدفعهِ للانصراف عن التجارة في الأربعين من عمره فقط والتفرّغ للتأمّل والتفكير. أمّا في المرّة الثانية، فاستعاد بيديرسين تلك الحادثة حينما توفّي جميع أبنائه باستثناء الأكبر سنًّا والأصغر الذي كان سورين البالغ من العمر آنذاك ستّة أعوام.
شَعر حينها بأنّ السماء انتقمت منهُ بخطف أبنائه منه لأنّه شتمها وكفر بِخالقها والدين الذي أنزلهُ، فراح يُكفّر آنذاك عمّا ارتكبهُ من ذنوب من خلال تربية سورين تربية دينية خالصة تقوم على احترام الدين المسيحيّ، والخوف من الله إلى الحدِّ الذي جعلهُ يخشاه، بحسب يوكيم غارف، بطريقةٍ غير مُعتادة، فيها من المبالغة ما سيدفعهُ للاكتئاب عندما عَرف بقصّة لعن والده الدين المسيحيّ الذي ربّاه على احترامه احترامًا كاملًا.
ما كان مهمًّا بالنسبة إلى سورين كيركغارد على الدوام هو الفرد، ذلك الذي سيلتقي به كلّ يوم، ويُعاين قلقهُ وهمومهُ وكذا عذاباته وخوفه
تبدّلت أحوال سورين كيركغارد، وسكنهُ الشعور بالذنب، والرغبة في التكفير عن خطيئة والده أيضًا بعد موته، فبات شخصًا انطوائيًا انصرف عن الحياة الاجتماعية في سبيل مُحاولاته المُستمرّة لتخليص روحه ممّا ارتكبهُ من ذنوب، والتي ستقوده فيما بعد إلى برلين التي وصلها بعد عشر من سنواتٍ من موت هيغل الذي تعلّق أوّل الأمر بفلسفته، ثمّ انقلب عليها وبات مُعاديًا لها أيضًا لدرجة أن صرّح قائلًا في أحد الأيام: "لا يهمّني التاريخ الموضوعيّ ولا الجماعات البشرية ككتل متراصّة، وإنّما يهمّني الفرد المحسوس بكلّ قلقه ومخاوفه الداخلية ورعبه. فأنا فيلسوف الفرد لا فيلسوف الجماهير والقطيع".
اقرأ/ي أيضًا: في فلسفة الإنسان
ما كان مهمًّا بالنسبة إلى سورين كيركغارد على الدوام هو الفرد، ذلك الذي سيلتقي به كلّ يوم، ويُعاين قلقهُ وهمومهُ وكذا عذاباته وخوفه، على العكس من هيغل الذي احتقر الفرد لصالح حركة التاريخ وتقدّم المجتمع فقط. هكذا، سيكون المنهج الفلسفيّ للفيلسوف الدنماركيّ قائمًا على فكرة مفادها أنّ الفلسفة ما هي إلّا علاجًا مُسكِّنًا لأوجاع الفرد وقلقه في هذا العالم.
اقرأ/ي أيضًا: