ينبعث الزعماء من قاع المجتمع الذي يعيشون فيه، لذا لا عجب أن أخلاقهم تشبه قسوة أيديهم التي تصنعهم. يتصرفون بمكر ودهاء مدفوعين بنفاذ بصيرتهم في اكتناه طباع البشر ونقاط ضعفهم. هم الانتهازيون حين يتعلق الأمر بمصالحهم. لا يترددون بمقايضة المال بالمكانة الاجتماعية التي لا يمتلكونها. وكما جاءت تذهب ثروتهم، ذاك لأن جل حصيلتها متأتية من سرقة أقوات الناس وفائض إنتاجهم.
ينبعث الزعماء من قاع المجتمع الذي يعيشون فيه، لذا لا عجب أنّ أخلاقهم تشبه قسوة أيديهم
هذا ما يرصده الروائي اللبناني شريف مجدلاني في روايته "سيد المرصد الأخير" (دار نوفل- هاشيت أنطوان/ ترجمة: دانيال صالح، 2015)، عبر تتبعه للسيرة الذاتية لعائلة خطّار، التي كانت إحدى العائلات التي تربعت على كرسي الزعامة في حي المرصد، الذي بدأ بالتشكل مع طلائع أفواج اللاجئين المسيحيين القادمين من دمشق وحاصبيا إلى جنوب بيروت حوالي عام 1870.
ينجح الجد الأول شكيب في أن يتحول من رسّام أيقونات متواضع إلى تاجر أثاث لاحقًا، تساعده الظروف وقوة شكيمته في اقتحام الصالون البرجوازي لعائلة آل صباغ في حي الأشرفية الراقي في بيروت الشرقية، لينتهي به المطاف صهرًا للعائلة. المؤسس الحقيقي لعائلة خطار هو مخايل ابن شكيب الذي سيتخذ قرارًا بتحويل نشاطه التجاري من الاتجار بالخشب إلى الاتجار بالرخام بحلول عام 1910. مخايل باني أمجاد وثروة العائلة التي كونها على نحو لصوصي، لن يتردد يومًا في المضاربة على أسعار القمح أثناء الحصار المفروض على موانئ لبنان في الحرب العالمية الأولى، حتى لو أدى ذلك إلى موت الناس أو اضطرارهم لبيع ممتلكاتهم له بأبخس الأثمان.
شكيب الثاني ابن مخايل الشخصية المحورية في الرواية؛ رجل متسلط وأناني، يمثل أخلاق وطباع أبناء البرجوازية الطفيلية اللبنانية على نحو مثالي. يأخذنا الراوئي عبر مخايل لنعايش حياته عن كثب، حيث نراه يتربع على عرش زعامة حي المرصد، طيلة عشرين عامًا، قبل أن تضعف مكانته وتتلاشى بفعل الحرب الأهلية في 1975.
في العمق، ترصد رواية شريف مجدلاني المصير الذي آلت إليه الزعامات المحلية، التي كانت جزءًا من النخبة السياسية التي حكمت لبنان وتحكمت به، فأودت به إلى السقوط في براثن الحرب الأهلية. فضحت الحرب اللبنانية عجز البرجوازية الوطنية عن تجديد نفسها، أو الاحتفاظ بمكانتها كراعٍ لتطوير الأمة اللبنانية، من خلال عجزها عن لجم رغبتها المتزايدة في الاستحواذ على السلطة واستخدامها للإثراء غير المشروع على حساب الكل الاجتماعي بجميع طوائفه. الأمر الذي وفر الأرضية الاجتماعية المناسبة للتفكير بالإطاحة بها عن طريق العنف.
لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية، حسب مهدي عامل، سوى حرب البرجوازية ضد بعضها البعض
من هنا يمكن فهم عجز شكيب خطار عن إيجاد الوريث المناسب لإدارة ثروته، التي جناها عبر مزاوجته بين السلطة والقسوة. ومن هنا يمكن فهم عجزه عن إدراك عدم قدرته على خلق الوريث المناسب رغم العدد الكبير من أفراد العائلة. ظل فهم شكيب قاصرًا عن فهم السر وراء عزوف ابنه البكر ميشيل عن الانخراط في عمل الوالد المتمثل بإدارة مصنع الرخام، مفضلًا الانخراط في حياة الليل والمتعة، غير مدرك أن ذلك يكمن في الفراغ الروحي الذي تولده الأخلاق البرجوازية نفسها، تلك الأخلاق التي لم تعد تشكل أي إغراء لأحد، لأنها في جوهرها تنزع من صاحب الثروة كل إحساس بإنسانيته وإنسانية الآخرين. فما الإغراء في إفقار أكبر عدد ممكن من الناس، ناهيك عن هدر كرامتهم وحيواتهم عبر شروط العمل المجحفة.
على نفس النهج في التمرد، سارت ابنته سيمون التي تحدت سلطة أبيها وهربت مع حميد الشاب الذي كان يظنه شكيب الابن غير الشرعي له. من لمياء زوجة عبد الله شاهين وكيل أعماله الزراعية في قرية كفر عيسى. هذا الموقف وضع الأب في نظر سيمون في وضعية المنحرف أخلاقيًا، فجعلها تتحلل من نظرة الاحترام الذي تكنه البنت لأبيها، واندفعت بلا مبالاة نحو حياة جنسية متهتكة ومبتذلة، مأخوذة برغبة عارمة بالانتقام من كل الأشخاص الذين وقفوا في وجه سعادتها.
في اللحظة التي يعي الأب خساراته، يتذكر فجأة الذكاء والطيبة التي يمثلهما ابنه الأصغر إلياس، ليكتشف أن إلياس الذي كان قد نشأ خارج الأخلاق التسلطية له، قد قرر الانسلاخ عن الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، معلنًا انحيازه للفئات الاجتماعية المسحوقة، عبر انضوائه في أحد الأحزاب اليسارية المقربة من الفلسطينيين.
يتوافق المصير الذي انتهى إليه شكيب خطار، والمتمثل بمقتله على أيدي إحدى الميليشيات المحلية التي قررت التخلص منه جسديًا، بعد أن رفض الموافقة على بيع عقاراته التي صارت مصدر إغراء للعديد من زعماء الميليشيات الجدد الذين جاءت بهم الحرب، يتوافق مصير شكيب مع فكرتنا عن العدالة، كما تثلج صدورنا النهاية السعيدة التي انتهت إليها حياة حميد بن عبد الله شاهين بحصوله على جميع ممتلكات شكيب خطار في قرية كفر عيسى. واكتشافنا المفاجئ أن حميد لم يكن يومًا سوى الابن الشرعي لعبد الله شاهين، وأننا كنّا ضحية الخداع الذي وقع فيه شكيب خطار نفسه.
إلا أنه وللأسف لا نجد هذا المردود الإيجابي للفرح في الواقع الفعلي، ذاك لأن الحرب اللبنانية لم تفض إلى بناء دولة لبنانية لجميع مواطنيها، بل على العكس من ذلك فقد أفضت لتكريس القسمة البرجوازية الطائفية التي تأسس عليها لبنان منذ 1943، فقد نجحت هذه البرجوازية في جعل هذه الحرب فرصة لتجديد شبابها وتبديل زعمائها الذين جاؤوا هذه المرة من طبقة أمراء الحرب. هذا هو مآل الحرب اللبنانية التي لم تكن وفق قراءة مهدي عامل لها سوى حرب البرجوازية اللبنانية ضد بعضها البعض، من أجل المزيد من السيطرة والنهب، غير مبالية بكل تلك القذارة التي تتسبب في صناعتها حتى "لو طلعت رائحة زعمائها".
اقرأ/ي أيضًا: