قال عنه إمبراطور السينما اليابانيّة اكيرا كوروساوا "أعتقد بأن أفلام المخرج الإيراني عباس كيارستمي رائعة واستثنائية والكلمات وحدها تعجز عن وصف مشاعري، حين توفي ساتياجيت راي أصابني اكتئاب شديد، لكن بعد مشاهدة أفلام كيارستمي شكرت الله أن وهبنا الشخص المناسب ليحل مكانه".
سينما إيران قبل كيارستمي ليست كما بعده، فهو من أسس لثقافة سينمائية بأكلمها طبعت هوية البلد السينمائية
وقال عنه المخرج الكبير مارتن سكورسيزي: "يمثل عباس كيارستمي أعلى المراحل التقنية في تاريخ السينما". وقال عنه المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار: "السينما تبدأ عند جريفيث وتنتهي عند كيارستمي".
وُلد عباس كيارستمي في 22 حزيران/يونيو من عام 1940 في العاصمة الإيرانيّة طهران، درس الفنون في جامعة طهران ومارس الفن التشكيلي والتصوير حيث عمل كشرطي مرور لفترة، وبعد تخرّجه عمل في الإعلانات التجاريّة، وعندما اندلعت الثورة الإيرانيّة وهاجر العديد من صُنّاع السينما، فضل هو البقاء في إيران، ليصنع بنفسه هويّة حقيقية لسينما ايران.
في عام 1970 قدّم عباس كيارستمي عمله السينمائي الأوّل عن حياة أحد أطفال المدارس، وفي 1974 قدّم فيلمه المُسافر، بعدها قدم العديد من الأعمال حتي عام 1987 عندما قدّم فيلم "أين منزل صديقي" الذي قدم فيه حياة طفل يعيش في إحدى قرى إيران، وعرفته المهرجانات عن طريقه.
وفي عام 1990 قدّم تحفته الأعظم "كلوزآب" الذي حظى بإعجاب الكثير من صنّاع السينما مثل سكورسيزي وجودارد وتارنتينو، وفي عام 1994 قدم فيلمه عبر شجر الزيتون الذي يُعتبر المدخل لثلاثيّته "كوكير" التي حققت نجاحات كبيرة.
وفي عام 1997، حمَل الايراني عبّاس كيارستمي فيلمه طعم الكرز إلى مهرجان كان في اللحظات الأخيرة بعد تدخُّل وزير الخارجيّة، وحينها حقّقت سينما إيران أهم إنجازاتها حيث فاز الفيلم بالسعفة الذهبيّة مُشاركة مع ياباني عظيم آخر اسمه شوهي ايمامورا.
استطاع الإيراني عباس كيارستمي فرض نفسه على خريطة المُخرجين الكبار، ووصل الحد إلى مقارنته مع أساتذة كِبار مثل الفرنسي اريك رومير والهندي ستياجيت راي والايطالي دي سيكا، وأصبحت أفلامه محل انتظار نظرًا لابتكاراته في السرد السينمائي أو مزجه بين الواقعيّة وحس الأفلام الوثائقيّة، فهو في سينماه يصنع من أقل الأحداث بساطة وأهميّة أعمالاً فنية عظيمة، وعادة ما تدور أفلامه حول الفطرة الإنسانيّة ومعنى الحياة والموت.
إنه يقدّم سينما تُمجّد في الحياة وتحاول أن تصل إلى مباهجها، وذلك رغم إنّه لا يرى في الحياة شيئًا جيّدًا. من جانب آخر، أفلام الرجُل تقوم على الاكتشاف والبحث، أحمد مثلاً يبحث عن زميله في (أين بيت الصديق)، وكذلك المُخرج يبحث عن أحمد بعد الزلزال في (وتستمر الحياة) وهُناك الرجُل الذي يريد مكانًا عاليًا ليجري مُكالماته الهاتفيّة في (وتحملنا الرياح)، وكذلك السيّد بادي الذي يبحث عمن يدفنه بعد انتحاره في التحفة (طعم الكرز).
اقرأ/ي أيضًا: الإشراقة الأبدية لعقل لا تشوبه شائبة
في فيلمه طعم الكرز، يحكي عباس كيارستمي عن السيد "بادي" الذي يُقرّر الانتحار فيحفر لنفسه حُفرة ويبحث عن شخص ليقوم بدفنه بعد تناوله لعدد من الأقراص المنوّمة، كل ما يتطلّبه الأمر هو مناداته ثلاث مرّات فان لم يستيقظ يهيل عليه عشرين مجرافًا من الرمل، كل مجراف بعشرة آلاف تومان، لكنّه يعجز عن إقناع العديد من الناس، وبعد العديد من المَفاصل يأتي مشهد حين يقابل عجوزًا يعمل في متحف للتاريخ الطبيعي، يبدو في حاجة للمال من أجل ابنه، يوافق على اداء المُهمّة ويحكي له أنه في طفولته أعد حبلًا ليحاول شنق نفسه وعند رميه على الشجرة لم يفلح التثبيت، فتسلقها ليشعر بثمرة كرز تحت يده، يأكلها ويستمر في جلب المزيد، ويجد بعدها الأطفال الذاهبين لمدرستهم ويطلبون منه أن يهز لهم الشجرة، فيعود إلى حياته التي تركها وراء ظهره بعد أن أراد الانتحار وتركها، ويوجّه سؤاله للسيد (بادي) هل تريد أن تتخلّي عن طعم الكرز؟
ينتمي عباس كيارستمي بإنجازه وبراعته إلى مدرسة كبار المخرجين المؤسسين
يتساءل الرجُل من خلال فيلمه حول كيفيّة الاستمتاع بالأشياء التي نملكها ولا نعرف قيمتها أحياناً، وهو في هذا يتجَاوز مُعاناة بطله إلى مُعاناة كُل إنسان في كل بقعة من الكون. فيلم يصرخ بالألم والتعب والفقر ومليء بالحوارات الجميلة الفلسفيّة التي تذهب بعيدًا لتواجه الحياة وفهم الأشياء والتعلُّق بالأمَل، وفي هذا الفيلم يتّضح أسلوب الرجُل حيث أفلام كيارستمي دائمًا ما تغرق في تفاصيل الحياة، وتجعل المُشاهد يتورّط دون مبَاشرة أو قصد في الأحداث، من خلال اعتماده على اللقطَات الطويلَة والمَشاهد الخارجيّة واستخدام مُمثلين هواة، وقلّة إستخدامه للموسيقى التصويريّة.
وبالنسبة لفكرة النظر من السيّارة إلى العالم يقول عباس كيارستمي: "عادة أرى العالم من نافذة سيارتي، الأفكار تتدفق في رأسي بصورة أفضل مما لو كنت جالسًا خلف مكتب، ربما لأن البحث حتى بلا غاية أو هدف ركن أساسي في فلسفات الشرق، البحث والرغبة في الاكتشاف هو الذي يحركنا، الحياة بالنسبة لي حركة، حتى في سكوتها أو ثباتها. حركة مادية أو ذهنية. لا يهم، المهم أن هذه الفكرة متضمنة في كل أفلامي".
عظمة عباس كيارستمي من وجهة نظري تتحقّق في نقطتين، الأولى هي هدمه للفاصل بين حقيقيّة السينما وخيالها عن طريق استخدامه لما يُسمّي بالدوكيودراما، وهو هنا يلغي كل الحواجز بحيث لا تعلم عند المُشاهدة ما هو حقيقي وما هو خيالي، وأقرب مثال على ذلك هو تحفته (كلوزآب).
النقطة الثانية هي منحه هويّة للسينما الايرانيّة، فإيران قبل الرجُل لم يكُن لها شكْل مُحدّد ولا قيمة في خريطة السينما العالميّة، لكن يأتي عبّاس كيارستمي ويمنحها هويّة وقيمة واضحتين جدًا، ويتأتى ذلك في كتابته أو إنتاجه أو حتّى في استلهام أسلوبه السينمائي لدى رفاقه من المُخرجين.
اقرأ/ي أيضًا: