لفتتني تلك الضجة التي أُثيرت مؤخرًا في وسائل التواصل الاجتماعي حول مسلسل "تحت الوصاية"، وهو مسلسل يتكوّن من 15 حلقة بدأ عرضه في النصف الثاني من شهر رمضان المبارك.
كان هناك الكثير من الأصوات النسائية التي اعترضت على صورة البطلة منى زكي التي تؤدي دور امرأة محجبة في المسلسل، فمنى تظهر في مشاهد المسلسل بوجه مُتعب وحاجبين عريضين وأزياء تتنافى مع معايير الموضة والعصرية، وهو الذي رأت فيه الكثير من النساء انتقاصًا من قدر المرأة المحجبة، وإصرارًا على عرضها في صورة نمطية معينة كامرأة متخلّفة وبعيدة عن اتباع العصرية في المظهر الخارجي واللباس.
يضع التنميط المرأة العربية في إطار يرى تفكيرها تفكيرًا قاصرًا ومحتجبًا ورجعيًا، وعاجزًا عن إدراك وتبني مفاهيم كُبرى كالعلمانية والحرية والعدالة الاجتماعية
قادتني تلك الاعتراضات إلى التفكير بشكل آخر من أشكال التنميط للمرأة المحجبة، وهو التنميط الذي ينظر إلى تفكيرها باعتباره تفكيرًا قاصرًا ومحتجبًا ورجعيًا وعاجزًا عن إدراك وتبني مفاهيم كُبرى كالعلمانية والحرية والعدالة الاجتماعية.
أخذني تفكيري إلى استذكار موقف حدث لي مع أحد الأشخاص الذين يُقدمون أنفسهم كعلمانيين ومتنورين، فبعد حوار جرى بيني وبين ذلك الشخص حول مفهوم العلمانية، الذي وضحت له بأنني أتبناه في تفكيري في شكله الإجرائي، بما هو فصل الدين عن الدولة، ورفض الاستغلال السياسي للدين، أي رفض الدولة الثيوقراطية، دولة الحكم الإلهي، التي تحكم فيها طبقة رجال الدين باسم السماء، أو باسم حكم الشريعة.
وضحّتُ لذلك الرجل، بأنني أفهم العلمانية وفقًا لهذا الشكل الإجرائي على أنّها إتاحة الحريات العامة والسماح بكلّ الآراء والمعتقدات، ووجوب وقوف الدولة المدنية على مسافة واحدة من جميع الديانات، وحظر إملاء الاعتقادات على الناس.
بيّنتُ له بأنني أريد في العالم العربي والإسلامي دولًا ديمقراطية تعددية، تحفظُ حقي في الالتزام كما تحفظ حقّ غيري في سلوك طرق أخرى، قلتُ له بأنّني كما أرى أنّ من حقّي أن أسير في الشارع مجاهِرة بمظاهر التزامي سواء كان هذا المظهر هو الحجاب أو الصوم أو أي مظهر آخر، فإنّني أرى كذلك أنّ من حقّ غيري أن يسير في الشارع مجاهِرًا بكلّ مظهر آخر، مهما كانت درجة اعتقادي به من حيثُ الصواب، وأنني أرفض أن تتدخّل سُلَط الدولة لقمع حرية غيري متذرعة بأنّها تتدخّل لإنصافي والدفاع عن مشاعري الدينية.
استطردتُ أمامه في تفصيل كيفية إدراكي ورؤيتي للمفهوم، وأخبرته بأنّ اختياري لطريق الالتزام الشخصي لا ينفي عني مطالبتي بدولة علمانية يُفصل فيها الدين عن الدولة، وتقف فيها السلطة السياسية بموقف محايد مني ومن غيري، بحيث تحفظ حقّي في سلوك طرق الالتزام وحقّ غيري في سلوك طرق حياتية أخرى.
تأمّل ذلك الرجل في ما قُلته مليًا، وقال لي بعد تفكير عميق بصيغة متعجّبة: علمانية ومحجبة! أحسستُ وهو يقولها بأنّه يوجّه لي شتيمة من نوع ما، أو أنّه لا يُصدّق ما تراه عينيه، وكيف أنّ امرأة محجبة مثلي تُدرِك العلمانية على هذا النحو، وتتبناها في تفكيرها كمبدأ ومنهج عام.
أعادتني تلك الضجة الأخيرة التي حدثت حول مسلسل "تحت الوصاية" إلى هذا الحوار السابق، ودفعتني للتفكير في أشكال التنميط الكثيرة التي تتعرّض لها صورة المرأة المحجبة، مثل التنميط لصورتها الظاهرية وعرضها في الدراما بصورة المرأة البعيدة عن معايير العصرية في المظهر واللباس، أو التنميط لصورتها الفكرية والجوهرية والنظر إليها على أنّها امرأة بعقل محتجب وفكر رجعي قاصر عن إدراك وتبني مفاهيم التنوير كالحرية والعدالة والعلمانية وغيرها من المفاهيم الأخرى، وكأنّ الحجاب يخرج هنا عن تعريفه كاختيار شخصي في المظهر الخارجي، إلى حاجب عقلي ومانع فكري وهو أبعد ما يكون عن ذلك.