عزيزي مارك،
كنّا نقرأ الكتب فرادى وبشكل منعزل عن الآخرين، دون أن نجد شريكًا يشاطرنا هذه الغواية. في البيت يسخر الجميع من هذه الهواية غير المجدية التي تضيع الوقت. وعندما يصعد الواحد منّا إلى الحافلة، وما أن يشرع في قراءة الكتاب الذي يحمله في يده حتى يشرع بعض المتطفلين بالسخرية واللمز بالكلام عن الاستعراض وادّعاء الثقافة. كنّا لا نعرف كيف نقرأ في ممرات الكليات في الجامعة، ولا أثناء الجلوس على الدرج؛ فنضطر للاختباء في المكتبة.
كنّا لا نعرف كيف نقرأ في ممرات الكليات في الجامعة، ولا أثناء الجلوس على الدرج؛ فنضطر للاختباء في المكتبة
وقلما نجد صديقًا نحدثه عن رأينا في آخر كتاب قرأناه، عما فعلته بنا رواية "الجريمة والعقاب"، عن العودة المجنونة إلى دواخلنا التي دفعنا إليها هذا الدوستويفسكي. لم نجرؤ يومًا أن نضحك على مرأى الآخرين ونحن نقرأ التركي عزيز نيسن، أو أن نرسم ابتسامة فرح لأنّ رابطة الكتّاب قامت بإعادة طباعة أعمال الروائي الأردني غالب هلسا في طبعة فخمة. لم يكن أحد يشاركنا قلق انتظار ترجمة رواية لكاتب عالمي حصل مؤخرًا على جائزة نوبل واكتشفنا أنه غير مترجم إلى العربية.
بالطبع كان لنا أصدقاء يشاركوننا الهم والفرح والضحك، يقفون معنا في الانتصارات والهزائم الصغيرة. غير أننا ما أن نشرع في الحديث عن الكتب والقراءة حتى ترى الملل يتسرب إلى هؤلاء الأصدقاء؛ فهذا يتثاءب، وذاك يلعب بهاتفه، وآخر يعتذر منسحبًا. والوضع في البيت والحارة ليس بأفضل حالاً، فيتم التعامل معنا كأشخاص مصابين بإدمان ما، الأمر الذي يحتاج منهم –الأهل والأصدقاء- إلى بعض الصبر لحين أن نجد ما يلهينا ويخرجنا من هذا المرض؛ ربما حبيبة نلتقيها أو زوجة وأولادًا يملأون علينا البيت صخبًا وحبًا، وربما ستتكفّل بنا الوظائف والأعمال المرهقة.
عزيزي مارك، لقد كان هذا حالنا... حتى دخلتَ حياتنا، وغيّرتها. بدا الأمر أشبه بمزحة، فهذه صفحة على الفيسبوك تتحدث عن الكتب والقراءة، يتعرض فيها القارئ لآخر كتاب قرأه، متناولًا إياه بالنقد وعارضًا رأيه. وتلك مجموعة يتصدى أعضاؤها للحديث عن الروايات، فيتبادلون النصح حول رواية لا بد للقارئ من المرور عليها، وأخرى سيئة لا ينصح بقراءتها. ثم أخذ القرّاء الفيسبوكيون يطرحون كتبًا للمناقشة الالكترونية؛ يختارون كتابًا ويضربون موعدًا يجتمعون فيه بمعيّة الحائط الأزرق، ثم يخوضون جدلاً طويلاً حول الكتاب المناقش، وقد يمتد الأمر إلى ساعات.
عزيزي مارك، بفضلك أصبح صوتنا عاليًا، فلم نعد نسمح لأحد بأن يسخر من اهتماماتنا وهواياتنا
ولربما بدأت الحكاية هكذا: قارئ نهم يرسل طلب صداقة إلى قارئ آخر، ويتفقان على اللقاء، ولا بد أنهما –قبل ذلك- قد تبادلا اللايكات والتعليقات على إحدى هذه الصفحات. ثم تتكرر اللقاءات وتزيد طلبات الصداقة، وتنتقل مناقشات الكتب إلى أرض الواقع عبر أندية القراءة ومجموعاتها. ثم بدأنا نغيّر أصدقاءنا، استبدلناهم بالقرّاء أو بالأصدقاء القرّاء. ولم يعد الأمر افتراضيًا؛ بل هم أصدقاء حقيقيون نلتقيهم على صفحات الفيسبوك ثم سرعان ما ننتقل إلى مقهى لنكمل نقاشًا ساخنًا حول فكرة ما أو كتاب على وقع الموسيقا. وأصبحنا نتجوّل سويّة في معارض الكتب ونلتقي في مختلف الفعاليات الثقافية. وبدأنا نتخفف من صداقاتنا القديمة، لم نكن أوفياء لنتحمل ملل هؤلاء الأصدقاء مثلما كانوا يحتملون ضجر حديثنا عن أشياء لا تعنيهم.
عزيزي مارك، بفضلك أصبح صوتنا عاليًا، فلم نعد نسمح لأحد بأن يسخر من اهتماماتنا وهواياتنا. بل أصبحنا نسخر من الأشخاص الذين لا يشاركوننا هذه الاهتمامات؛ من ذلك الشخص الذي لا يعرف تشيخوف، أو تلك التي لم تقرأ موسم الطيب صالح. ومع الوقت صرنا أصدقاء أكثر؛ نلتقي كثيرًا لنتحدث عن الكتب والروايات والشعر، حديثًا صاخبًا في الفيسبوك وفي المقاهي وعلى الهاتف. وصار الحديث عن القراءة يأخذ الكثير من وقت فراغنا... بل كله، حتى إنّ بعضنا صار يتحدّث عن القراءة بإفراط، لدرجة أنه لم يعد يجد متسعًا من الوقت كي يقرأ!
اقرأ/ي أيضًا: