يحفر شلومو ساند عميقاً في ذاكرة إسرائيل، يحفر البروفسور الإسرائيلي، المعادي للصهيونية، ويوغل في الحفر. ليس رجلاً يتحدث ليتحدث، لا يريد موقعًا على خريطة المتحذلقين. لم يكتشف أنه صقر فجأة كما حدث مع أفيغدور ليبرمان، ولا يحلم بالتحول إلى شمشون كبنيامين نتنياهو. لا يدّعي السلام السوريالي على طريقة شيمعون بيريز أيضاً.
من المستحيل تاريخيًا أن يتحدر جميع اليهود في العالم من الخارجين مع موسى في إسرائيل
في كتابه اختراع الشعب اليهودي، يبدو أركيولوجيًا أكثر منه كاتبًا، وتعزز خلاصاته هذه الصورة، إذ إنه ليس يساريًا هلاميًا مثل عاموس عوز، أو متعاطفا راديكاليا مع الفلسطينيين مثل إيلان بابيه. شلومو ساند أكاديمي. وقد استكمل كتابه الأول، بكتاب آخر، هو هكذا لم أعد يهوديًا، تطغى فيه روح الكتاب على الباحث. غير أنه، حتى في "اختراع الشعب اليهودي"، يذهب إلى البحث مشاركًا ومتورطًا، وإن كان محايدًا في تناوله المعطيات التاريخية، فإنه ليس فاترًا حين يتعلق الأمر بالمواقف. هكذا، يتدوال الكتاب في فصله الأول قصصًا بطابع شخصي، أعدها الباحث، أو صودف وأنه عرف بها في فترات معينة. وأبرز هذه القصص بلا شك، هي قصة والده البولندي الشيوعي. اعتقل والده قبل الحرب العالمية الثانية، خلال فترة اضطهاد اليهود من النازيين، وهرب إلى الاتحاد السوفييتي، قبل أن يستسلم لقرار الوكالة اليهودية ويذهب إلى حيفا عبر مرفأ مرسيليا الفرنسي في 1948.
ويؤكد ساند أن ضمير والده لم يمت كما مات الأمل في الحرب، بل ظل يشعر بعقدة الذنب، وأن فلسطين ليست أرضه. بكلمات أخرى، لم يكن والده يهودياً بالمعنى الثقافي. وتنسحب الحالة نفسها على والد زوجته، الذي كان ثوريًا، وحارب ضد كتائب الجنرال فرانكو في كاتالونيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية 1936. وأحبط الرجل وحصل على هوية جديدة أدت إلى أن يصير مقاتلًا في الجيش الإسرائيلي، رغم أنه لم يكن يهوديًا في الأساس. وفي السياق ذاته، يبدو المكتوب في القسم الثاني واضحاً من عنوانه: "ذاكرة زُرعت عكس تاريخها". يتحدث ساند عن الدعائم التي أدت إلى أسطرة إسرائيل، بحيث صار جميع الإسرائيليين يصدّقون أن الشعب اليهودي بأسره موجود فعلًا منذ توراة موسى. والحال أن ساند يرى أنه من المستحيل تاريخيًا أن يتحدر جميع اليهود في العالم من الخارجين مع موسى في إسرائيل، ويستحال أن تكون إسرائيل هذه نفسها. لا يقتنع إطلاقاً بأن التشرد قد يستمر ألفي عام. وهذه نقطة أساسية، إذ يتوزع البحث الطويل على خمسة فصول رئيسيّة، تدور جميعها حول مسألة واحدة "الشعب اليهودي واختراعه".
يطرح الكاتب سؤالًا عملاقًا، هل ثمة شعب يهودي؟ والقصد، هل يوجد مقومات قومية وعرقية كافية لتشكيل "شعب" يهودي، من مجموعة اليهود المنتشرين حول العالم؟ ينطلق من فرضية أساسية في بحثه، تودي به خلال البحث إلى الاعتقاد بأن قضية "الأرض الموعودة" ليست سوى فكرة دخيلة على الإرث اليهودي التقليدي، إنما طرأت على المشهد تزامنًا مع ظهور الحركة الصهيونيّة في الفترة الكولونيالية وما قبلها بقليل. في أكثر من مكان في الكتاب، لا يفوت ساند الإشارة إلى أن اليهود لطالما تعاملوا مع أورشليم كمكان بخصوصية دينيّة لا تلزم علاقة مباشرة معها، أي الحياة والاستيطان فيها، وينسحب هذا الاعتقاد على المسيحيين والمسلمين.
ويبدو واضحًا، من روح الكتاب، بأن اليهود حسب ساند لم يطردوا من القدس، أو من "إسرائيل التاريخية"، ويذهب في مواضع معينة أبعد من ذلك، حين يجزم بأن معظم اليهود المنتشرين اليوم ليسوا على علاقة عضوية أو غير ذلك بأرض فلسطين، من دون أن يفوته في أكثر من مناسبة بأن يدعم وجهات نظره بالدراسات العلمية. والواقع أن مسألة فلسطين، في هذا التوقيت بالذات، تحتاج إلى مقاربات ساند، في ضوء سبات العالم فيما يخصها، وتوجه الأبصار إلى الشرق الأوسط العامر بالدماء.
صار جميع الإسرائيليين يصدّقون أن الشعب اليهودي بأسره موجود فعلًا منذ توراة موسى
يمكن الجزم بأن ساند يلاقي، في مكان ما، الكاتب الفرنسي الشهير، روجيه غارودي، بل ويتفوق عليه في الناحية المنهجية، بحيث يخصص الجزء الثالث من الكتاب بأسره لتفنيد الأساطير الإسرائيليّة، وفحصها عبر منهج جاك دريدا تفكيكاً. فإن كان غارودي أيديولوجياً، فإن ساند ينحاز إلى المنهج الأكاديمي، وتقوده الخلاصات إلى أن هذه الأساطير تجتمع كلها لتأسيس أسطورة كبيرة، هي أسطورة شعب يهودي، كما يسمّيه ساند بالعبرية الحديثة.
إحدى أبرز هذه الأساطير، مستلهمة من حادثة السبي الشهيرة، وإن كان الباحث لا يشير إلى ذلك مباشرةً، فإنه يتحدث عن المنفى بعد خراب الهيكل والحادثة الشهيرة. يومذاك، تقول الأسطورة الدينيّة إن اليهود الملتزمين بدين موسى سلخوا عن أرضهم في القدس، وتشتتوا في أصقاع الأرض. والحال أن هذه ليست أسطورة بالمعنى التاريخي الدقيق، لكن الأسطورة تتمحور في تأسيس وعي قومي جماعي على أنقاض هذه القصة، لتشكّل ذاكرة شعب إسرائيل. واللافت، أن ساند، يبحث علميًا ولاهوتيًا. ففي سياق مواز لفرط الأسطورة من الناحية اللاهوتية، يستند إلى الوثائق الرومانية، ويدقق فيها، فلا يجد أي إشارة لحدوث طرد جماعي من أرض يهوذا، محللاً الوقائع آنذاك اقتصادياً وسوسيولوجياً. تاريخياً، كان الرومان، وبعدهم الآشوريين، يعتمدون على الفلاحين اليهود، المنتظمين في تسديد الضرائب. إن طرد كمية كبيرة منهم كانت لتسبب مشكلة اقتصادية كبيرة آنذاك، على القوة الحاكمة في بلاد اليهود.
هكذا، وعلى نحو ما، وبعد مقاربة الموضوع من زاوية لاهوتية ومن زاوية نقديّة تساير اللاهوت ولا تقف في الموقع النقيض منه، يصير الشتات حسب ساند مقدمة لأسطورة ثيولوجية أخرى، أي انتظار المسيح. واللافت أن التلمود البابلي، في مسألة النذور الثلاثة، يعبّر وبوضوح تام، عن واقع الانتظار الذي يعيشه اليهود في انتظار المسيح، فأول هذه النذور يرفض الهجرة إلى القدس مجددًا. وعلى هذ الأساس، صار تعجيل الخلاص أمرًا مرفوضًا عن اليهود، كما أن الشتات، أو الاعتقاد والإيمان بقصة الشتات، إجباري في الحالة اليهودية، للتلاقي مع ذاكرة شعب إسرائيل الواحدة. وهي ذاكرة تعرضت للتصدع والترميم مرارًا، وهنا إضافة لافتة أخرى من ساند أثناء قراءة المشهد الديني بحذافيره، بعد خراب بابل توجه اليهود إلى بغداد، وبعد سقوط الأندلس توجهوا إلى دول حوض المتوسط، وبعد المجازر التي ارتكبت بحق مجتمع اليدييش في أوروبا الشرقية هاجر اليهود إلى الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية. كل هذا، حدث قبل أن يستيقظ اليهود ويجدوا أن إرثهم اللاهوتي يوجب أن يعيشوا معاً في "إسرائيل". والحال أنهم كانوا يفضلون الغرب على الشرق، لكن خراب فلسطين وقع هنا، فجاؤوا إلى هنا. ولا يتطرق ساند إلى الاستيطان، ليس لأنه بناء غير شرعي، إنما لأنه كذلك على أرض غير شرعيّة.
في محطات متنوعة من الكتاب، يتضح أن اليهود، وخلال 18 قرنًا، أي قبل ظهور الحركة الصهيونيّة بقليل، لم يؤرخوا تأريخًا دقيقًا لما حدث معهم، على غرار المسيحيين والمسلمين، أي أقرانهم في الإرث الإبراهيمي، ذلك رغم أنهم أقدم الديانات التوحيدية السماوية من الناحية العملية. ولا يحيل هذا إلى أي معاداة للسامية طبعاً، بل إلى محاولة علميّة لقراءة التوظيف المنهجي الذي حدث، لضياع تاريخ اليهود من جهة، وللاضطهاد الغربي عمومًا لليهود، وما أدى إليه هذا التوظيف. هكذا، يتناول ساند المحاولات الشتى لإقناع اليهود بأنهم شعب، لكي يختفي الجلاد الحقيقي لليهود، من جلاد القرون الوسطى إلى "هنريش هيملر". من هذه المؤلفات، ذكر ساند مؤلفات غرينتر حصراً، التي أسهمت اسهاماً كبيراً برأيه في صياغة تفكير قومي جامع لليهود.
بيد أن ساند يفند بحكمة الفجوة التاريخية بين يهود الماضي ويهود الحاضر، في المقطع الثالث تحديدًا. فيهود الماضي، كانوا يتعاملون مع بعضهم البعض كما تتعامل الجماعات عادةً، أي أنه ينتمون إلى الدين نفسه، بيد أن المؤسطرين للشعب اليهودي، والطامحين إلى إنشاء قومية إسرائيليّة بخلفية يهودية، ركزوا على ما يجمع الجماعات الدينية. كان من الضروري، حسب ساند، لإنشاء كيان جامع واحد، أن يكون هناك ذاكرة واحدة، وفي الحالة اليهوديّة، لعب العامل الديني هذا الدور، ووجدت الحركة الصهيونيّة أرضية لاهوتية واحدة وخصبة، لتبني عليها المشتركات التي أسست إسرائيل على أساسها. بهذا المعنى، فإن اسرائيل، هي نقيض التطور اللاهوتي اليهودي، وهي العودة باللاهوت إلى الوراء، بدلاً من التقدم به إلى الأمام. وعلى هذا الأساس، لم يعد شلومو ساند يهودياً في كتابه الثاني، لأن اليهود، ليسوا شعباً، بالمعنى الذي يصرّ عليه الديناصور أفغيدور ليبرمان.