سقط نظام معمّر القذافي عام 2011، وقامت أنظمة أخرى بديلًا له، بما بات يُهدّد أمن الإنسان ووحدة المكان. وهو مقام ظهر فيه صوت السّياسي والعسكري والإرهابي ومهرّب البشر، وبقي فيه صوت الكاتب خافتًا، ليس جبنًا منه، بل لأن طبيعة المقامات الدّموية تخنق هذا النّوع الأصوات بالضرورة، لأنها تعبّر عن ضوء الحياة.
سقط نظام معمّر القذافي وقامت أنظمة أخرى بديلًا له، بما بات يُهدّد أمن الإنسان ووحدة المكان
على مدار هذه السّنوات الصّعبة، ظلّ شباب ليبيون يكتبون شعرًا وقصّةً وروايةً، ممارسين من خلال ذلك فعل الحياة، ومدينين فعل الموت وعرّابيه، في غفلة من الجميع. وكان لا بدّ من شرارة ما، في الوقت المناسب وبالطريقة المجدية، لتعلن تلك الكتابات عن نفسها وعن أصحابها، وتؤكّد أن هناك فعل مقاومة وحياة في ليبيا الحرب والموت. وهذا ما فعله الشّاعر خالد المطاوع والقاصّة ليلى نعيم المغربي، حيث جمعا نصوصًا سردية وشعرية لـ23 اسمًا في كتاب/ أنطولوجيا تحت عنوان "شمس على نوافذ مغلقة"، منهم انتصار البرعصي والمكّي أحمد المستجير وسراج الدين الورفلي وأمل النايلي وأنوار الجرنازي وفيروز العوكلي.
اقرأ/ي أيضًا: بنغازي ذهابًا وإيابًا
الكتاب الذي هو ثمرة للتعاون بين "المجلس الثقافي البريطاني" في ليبيا، و"دار دارف للنشر"، و"مؤسسة أريتي للثقافة والفنون" في طرابلس، ويتوزّع على 555 صفحة، فتح نوافذَ ظلّت مغلقةً، على واقع إبداعي وإنساني ليبي، من خلال نصوص كتبت بلغة النار، التي طلعت منها أصلًا. فالذّوات الكاتبة كانت محاطة بالموت وأصواته البشعة، بالتالي فقد كتبت بعيدًا عن منطق المجاملة أو المتاجرة أو التزكية أو التحفّظ أو الاختفاء وراء الكلمات والجمل الرّخوة.
أن تكتب وأنت مهدّد مع وطنك وشعبك بالحريق، لن تكون مطالبًا بالأعصاب الباردة، التي يكتب بها غيرك في عواصمَ آمنةٍ، وهم يشربون العصائر الباردة. يقول حسام الثني في قصيدة له ضمّها الكتاب: "أنا صوتي المخنوق أكتب لي"، أي أن الكاتب نفسه يصبح هو متلقي نصّه. فالسياق لا يسمح حتى بصرف الرواتب والأغذية، فكيف بصرف القصائد والكتب؟
جعلت هذه الروح لغة معظم النصوص الواردة في الكتاب حارّة. عارية. ناهشة. ضاربة عرض الحائط بأصول لم تستطع أن تحفظ لحياة الإنسان قداستها، مع ذلك يستمرّ قطاع واسع من الناس في مراعاتها، وهم يحكمون على النصوص الأدبية. هنا يُشار إلى أن الكتاب تعرّض إلى حملة رفض وتشويه من طرف العديد من الجهات السياسية والثقافية في ليبيا، بحجة أنه تضمّن وقاحاتٍ وبذاءاتٍ في حقّ "مقدّسات" معيّنة. ووصل الأمر إلى المطالبة بمحاكمة كل من ساهم في إخراجه إلى العلن، فكان ذلك مقدّمة لحرب فكرية وثقافية بين أنصار الحرية الفكرية في البلاد ومقيّديها. وهي المعركة التي تفوّق صوتها في ليبيا على صوت الرصاص لأوّل مرّة منذ اندلاع شرارات الحرب قبل ستة أعوام.
وتفاقمت الاتهامات الموجهة للكتاب، بعد حفل التوقيع الذي نظم في مدينة الزاوية يوم 26 أغسطس الفارط، من طرف "نادي القارئ" بالتعاون مع "دار الزّاوية للكتاب"، حيث طالب نشطاء فيسبوكيون "الهيئة العامة للكتاب" بالصرامة في منع الكتاب. تجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن المشرف على جمع نصوص الكتاب خالد المطاوع قد راسل رئيس الهيئة، وأخبره بأن المقاطع المعترض عليها هي أصلًا واردة ضمن كتب صدرت سابقًا في في الدّاخل الليبي، وحصلت على التصريح القانوني بذلك، منها رواية "كاشان" لأحمد البخاري الصادرة عام 2012.
أن تكتب وأنت مهدّد مع وطنك وشعبك بالحريق، لن تكون مطالبًا بالأعصاب الباردة
وفي تصريح لـ"الترا صوت" قال خالد مطاوع إن هذه الحملة ضدّ حرية الكتابة والتعبير تأتي في إطار الفراغ العام الذي يعيشه المشهد الليبي، "حيث يبحث الناس عمّن يتهمونه، ويصبّون عليه غضبهم العميق. ما جرى هو حالة غضب تائه بلغة علم النفس". يضيف: "أمّا القسوة التي عوملت بها الكاتبات المشاركات في الكتاب، بالمقارنة مع الكتّاب المشاركين، فهي دليل على الكره الدّفين، الذي تكنّه مجتمعاتنا العربية والإسلامية للمرأة واستمتاعها بقمعها وقهرها".
اقرأ/ي أيضًا: جداريات الحرب في ليبيا
من جهته، قال الروائي الليبي المقيم في ألمانيا محمّد الأصفر إن النصوص التي تضمّنها الكتاب تعدّ طازجة، وقد حاولت أن تعبّر عن ذوات كاتبيها عبر السرد والشعر والسيرة، بعد سقوط نظام القذافي، "وهي جديرة بأن تتحوّل إلى وثيقة أدبية على المرحلة". يضيف محدّث "الترا صوت": "إنّ صدور هذا الكتاب في هذا الوقت، الذي تغرق فيه البلاد في تمزّقاتها وفوضاها، يعدّ بادرة مضيئة وعلامة مقاومة ورفض للموت، ودعوة لكافة الأطراف المتحاربة للجلوس إلى طاولة الحوار والسّلام".
اقرأ/ي أيضًا: