كما النار في الهشيم، تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان الصفحات المتخصصة بالبيع أونلاين. آلاف الصفحات تعرُض أمام المتصفح الملبوسات، الأحذية، مواد التنظيف ومستحضرات التجميل، وصولًا إلى الهدايا من ساعات وعطور، ناهيك عن المتممّات الغذائية والبروتينات التي يبحث عنها مرتادي الصالات الرياضية لتضخيم اجسادهم وفتل عضلاتهم. عشرات الأصناف من السلع المعروضة بشكل شديد الاختلاف عن المتعارف عليه في الأسواق العادية ضمن الواقع غير الافتراضي.
ينخدع كثير من الزبائن خلال عملية التسوق عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ويكتشفوا أن النوعية أو المقاسات والخصائص المتعلقة بالمنتج المطلوب في الواقع غير مطابقة لما اشتروه إلكترونيًا
تحوّل البيع أونلاين في لبنان إلى مهنة الجميع تقريبًا، كل ما تحتاجه كي تبدأ هذا العمل هو صفحة على منصة فايسبوك أو إنستغرام، بعض المهارات التسويقية، ومصادر تؤمن لك بضاعتك من داخل لبنان أو خارجه. كما شكل انتشار فيروس كورونا في الشتاء الماضي، والحجر الصحي الذي فرضته الحكومة اللبنانية يومها، إضافة إلى تردّي الوضع المعيشي في لبنان، وإقفال عدد من كبير من المؤسسات التجارية، كلها ظروف ساهمت في ازدهار هذا النوع من التجارة. صاحب الصفحة يلعب دور الوسيط بين المصنّع والزبون، يأخذ الطلب أونلاين من الزبون، ويؤمنه له خلال أيام. هو ليس مضطرًا هنا لامتلاك أو استئجار محل تجاري، مع ما يرافقه من مصاريف باهظة كرسوم الكهرباء، البلدية وخدمات تنظيف. يمكنه أن يدير العملية التجارية من منزله، الأمر الذي يخفّض التكلفة، وبالتالي يعطيه المجال لتقديم أسعار تنافسُ أسعار المحال التجارية، الأمر الذي يفاقم الأزمة التي تعيشها هذه الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: لقاحات كورونا الموعودة.. إلى أي مدى يمكن التفاؤل بنتائج التجارب السريرية؟
منذ بدء الحجر الصحي في شهر آذار/مارس 2020، وصلتني عبر صفحتي على منصة فايسبوك عشرات الدعوات من الأصدقاء لمتابعة صفحات خاصة بهم متخصصة في البيع الإلكتروني. أصحاب هذه الصفحات هم ربّات منازل، طلاب جامعات، معلمون وموظفون، إضافة إلى أشخاص فقدوا عملهم الأساسي بسبب الأزمة التي يعيشها لبنان. البعض يعتاش من البيع أونلاين، والبعض الآخر يرى فيها موردًا إضافيًا للرزق يساعده في تحمّل مصاريف الحياة. ولا تقتصر عملية البيع أونلاين على المبادرات الفردية، فعدد كبير من المتاجر والمؤسّسات أدخلت خدمة الطلب أونلاين وعملية توصيل المنتجات إلى المنازل ضمن عملها في الأشهر الأخيرة، لمواكبة الاحداث، ولمواجهة قرارات الحكومة المتلاحقة فيما يخص إقفال البلد.
يتم النظر إلى مهنة البيع عبر منصات التواصل الاجتماعي في لبنان كمصدر معزز للدخل الأساسي، ومع انهيار الليرة اللبنانية أمام العملة الأجنبية أصبح هذا المصدر أقرب لأن يكون المصدر الأساسي للدخل لدى كثير من العاملين في هذا الإطار
لدى منصات التواصل الاجتماعي قدرة كبيرة على فهم ميول ورغبات المتصفحين من خلال خوارزمياتها وتقنياتها المتجددة باستمرار، وبالتالي الحاجات الشرائية لكل مشترك بها، من خلال تحليل آلاف البيانات والمعلومات، ما يتيح لها بناء خوارزميات قادرة على إيقاع المتصفح/الزبون المفترض في شركها، من خلال فهم نمطه في الاستهلاك واهتماماته بالمجمل.
في الوقت نفسه، يكفي مثلًا أن تشاهد إعلانًا على فيسبوك لصفحة تبيع نوعًا من العطور، حتى تمتلأ صفحتك في الساعات التالية بإعلانات عن العطور. النظام يعرف جيدًا أنك تفكر في شراء قارورة عطر الآن. الأمر نفسه ينطبق على المتمّمات الغذائية للرياضيين، الأحذية الرياضية، الإكسسورات وما إلى ذلك. يمكن لأصحاب الصفحات أن يختاروا عينات كبيرة لتصل إليها إعلاناتهم، عينات تهتم بمنتجات محددة دون أخرى، فـالذكاء الاصطناعي وعملية تحليل البيانات التي يقوم عليها عمل هذه التطبيقات، قادرة على فهم ومعرفة كل يحتاجه كل مستهلك.
اقرأ/ي أيضًا: تقرير صادم: 50 ألف حالة اعتداء وتحرش جنسي في الجامعات البريطانية سنويًا
وكما هي الحال في ما يخصّ التسوّق مباشرة من المحال التجارية، يعاني كثيرون اليوم من مشكلة إدمان التسوق أونلاين. تنجح الصفحات التي تعرض لهم المنتجات بطريقة ذكية في جذب انتباههم. يغرونهم بخدمات التوصيل المجاني، وباعتماد الليرة اللبنانية كعملة رسمية في التداول، في بلد يعاني اليوم من شح وارتفاع مخيف في سعر صرف الدولار الأمريكي الذي بلغ سعره الرسمي مؤخرًا 1516.80 ليرة لبنانية، وفي السوق السوداء تجاوز هذا الحد بكثير.
هنا مثلًا إحدى الصديقات تقول أنها تطلب منتجات اونلاين بشكل شبه يومي، وأن معظم هذه المنتجات لا تكون بحاجة إليها، لكنها لا تستطيع مقاومة إغراء ال" التسوّق الإلكتروني". ولا تخضع التجارة الإلكترونية للقوانين التي ترعى عمليات البيع والشراء التقليدية. بالتالي، فإنه لا توجد ضمانات لكلّ من البائع والشاري على حدّ سواء. عاملو توصيل المنتجات يتعرّضون لحوادث سرقة على الدوام، في بعض المناطق، يتم نصب كمائن لهم وسرقتهم من خلال تضليلهم. في المقابل، فإن المشتري لا يحصل بالضرورة على نفس السلعة التي رآها في الإعلان، يتم خداع المشتري بالمؤثرات البصرية وبالتلاعب بالمقاسات كما يحدث في إعلانات المطاعم الشهيرة. الفارق بين ما تشاهده في الإعلان وبينما ما تحصل عليه في النهاية ألهم ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي لكتابة مئات النكات حول الموضوع.ووصل الأمر إلى اعتبار كل ما هو غير مطابق للمواصفات أو للمعايير المتعارف عليه، من باب الطرفة، أنه قد وصل إليك "من علي إكسبرس".
واقع يتدخل في حياة غالبية كبيرة من الناس اليوم في لبنان، يأتيهم عبر العالم الافتراضي محاكيًا اهتماماتهم وحاجاتهم الأساسية والرفاهية، دون أن يتوفر الحد الأدنى من الشروط التنظيمية أو القوانين الراعية. فهل يمكن توقع أن يتم أخذ خطوة قريبة باتجاه تنظيم هذا السوق وضمان الحد الأدنى من مراعاة حقوق الأطراف المشتركة في العملية؟ أم أن الحديث بهذا الصدد يشبه القفز عن عشرات الأسئلة والقضايا الأساسية المعلقة في لبنان حتى اليوم!.
اقرأ/ي أيضًا: