دخلتُ الجزائر العاصمة قبل خمسة عشر عامًا، وتصعلكتُ في كثير من زواياها ورصدتُ كثيرًا من خفاياها، إنسانًا ومكانًا، في الفصول الأربعة، بالموازاة مع قراءات مختلفة لبعض ما كتب عنها في التاريخ والفن، من طرف الغربيين خاصّة، فأعمق ما كتب عن المكان الجزائري كان بأقلام الغربيين، وهذا الحكم قابل للنقاش، فأصبحت أعيش تحت وطأة هذا السّؤال: لماذا لم تستطع هذه الحاضرة الجميلة والثرية بالتفاصيل المتوسطية والأمازيغية والتركية والأندلسية والعربية والإسلامية أن تثمر روحًا شاعرة تقولها وفق أصول الشّعر وجمالياته؟
ما معنى أن تحتضن مدينةٌ أكبرَ عددٍ من الشّعراء، في مقابل خلوّ نصوصهم من تفاصيلها؟
إذا فصلنا بعض الحشرجات الشّعرية التي حاولت أن تلتقط اللحظة العاصمية، بعد أن أفرغت المدينة من مضمونها الفرنسي وعُوّض بالمضمون الجزائري عام 1962، فإننا نقف على فقر في هذا الباب، كما نقف على مفارقة جديرة بالدّراسة والتحليل: ما معنى أن تحتضن/تستقبل مدينةٌ أكبرَ عددٍ من الشّعراء، في مقابل خلوّ نصوصهم من تفاصيلها؟ وإن وجدت، فمن باب الحنين إلى مساقط رؤوسهم؟
اقرأ/ي أيضًا: دليلة فخري.. الموتُ في زجليات مغربية
في العادة/المنطق، يتولّى كتاب فكري أو إعلامي الإجابةَ على مثل هذه الأسئلة، بالنظر إلى الحاجة إلى المعرفة، في مثل هذه المقامات، لا إلى التناول الرّومانسي، غير أن منطق الشعر القائم على المفارقة/الانزياح، جعلني أتلقى الإجابة من كتاب شعري هو "ضجر البواخر" لـ صلاح باديس (منشورات المتوسّط، 2016) ولم تكن الإجابة تصريحًا، فقد التزم الكتاب بروح الشعر الرّافضة للتصريح، رغم استثماره في جماليات السّرد، بل كانت حالاتٍ إنسانيةً أشّرت على يتم المكان وغناه في الوقت نفسِه.
إذا راعينا الزّمكانَ الذي ولد فيه الشاعر، 1994 في ضاحية باش جرّاح، فإننا نجد أنفسنا أمام لحظة جزائرية كان الموت والخوف منه مهيمنين فيها، إلى درجة أن كلّ الأصوات كانت تثير التوقع بأنّ النهاية اقتربت، نباح الكلاب ومواء القطط ومزمار السّيارة وصراخ الإنسان وصرير الأبواب ووقع الأحذية والطرْقُ على الأشياء. ما أقسى لحظة يصبح فيها السّكون الذي هو الوجه الثاني للموت دليلًا على أن الحياة/الحي بخير. فما المتوقع من ذات تفتح عينيها داخل تلك اللحظة؟
لقد جابهت نخبة من الكتّاب الجزائريين بشاعة تلك التجربة بكتابات شعرية وسردية سُمّيت "أدبًا استعجاليًا"، ووقع كثير من التعسّف في مقاربتها، وواجهتها روح المكان بولادة أطفال، سيصبحون فيما بعد شعراءَ وروائيين وموسيقيين وتشكيليين يقولون/ يكتبون/ يرسمون/ يعزفون الحياة، ضجرًا وشغفًا، كان صلاح باديس واحدًا منهم.
لا يمكن فصل التّاريخ الوسيط لمدينة الجزائر العاصمة، عن حركة القراصنة في البحر الأبيض المتوسّط، فقد شكّلوا يومياتها وليلياتها، حتى باتت ذاكرتها تحيل عليهم، أكثر ممّا تحيل على شريحة أخرى. واستدعاؤهم شعريًا في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، إشارة على أن أرواحهم لم تغادر المكان. هل هي إشارة سياسية أم شعرية؟ سؤال يتكرّر في كلّ نص من النّصوص السّبعة عشر، بما يُحيل على "وعي شقي" لهذا الجيل الجديد، يحصّنه من الوقوع في المقولات الجاهزة، في التاريخ والسّياسة والوطنية، والتي جرّب خواءَها في واقعه، فهو ينتصر للّحظة لا للذّاكرة، ولا يهمّه أن يوصف بكونه جيلًا منسلخًا، فأن تكون منسلخًا عن هوامش الكذب في تاريخ أجدادك، خير من أن تكون منفصلًا عن هوامش الصّدق في لحظتك.
لا يمكن فصل التّاريخ الوسيط مدينة الجزائر عن حركة القراصنة في البحر المتوسّط
تقول اللحظة في نصّ "هروب": "نقضي نهاراتِنا في الحلم بشاطئ نرمي فيه التعبَ الذي تراكم في جفوننا وجيوبنا وأحذيتنا وعلى جباهنا/ نحلم بالهروب من حرّ الإسفلت إلى برودة الماء، كحيتان تفشل كلّ مرة في الانتحار". وتقول في نصّ "اقتصاد الحاويات": "الوزير الأوّل يقول إنّ الحاوياتِ تحجب أشياءَ كثيرةً، ورغم جمال ألوانها، إلا أنّها صارت تسبّب خسائرَ للدّولة، لذلك صار عليهم التخلّص منها، والبحث عن بديل غير ملوّن". وتقول في النّص نفسه: "الرّافعات الصّفراء الجميلة التي كنّا نسحبها، فتُخرج قرصَ الشّمس من الماء، مع كلّ شروق، صارت تتعطّل وهي تحاول رفع معنويات الناس".
اقرأ/ي أيضًا: أندريس نيومان.. شعر يملأ فراغ الحاضر
إذا كان لا بدّ من تحديد ثيمة لهذه التجربة الأولى لصلاح باديس، فهي الاشتغال على معنويات الإنسان والمكان في الجزائر العاصمة، بروح تحاول أن تصل إلى ضجر الأعماق، من خلال رصد اختلالات السّطح، وهي بهذا تلتقي/تتكامل مع جملة من التجارب الغنائية الهامشية التي تبنّاها جيل ما بعد الإرهاب ممارسةً واستماعًا، كما تتكامل مع روح المنشور الفيسبوكي الذي بات يتعاطاه هذا الجيل، تعبيرًا عن انتباهاته ونباهاته، إذ من غير المعقول ألا تثمر هذه التحوّلات في مفهوم التواصل الاجتماعي، تجربةً شعريةً تضع يدها في يد أسئلة وأشكال إبداعية جديدة.
تقول اللحظة في نصّ "باب الزوّار": "أنت تعرف أنّهم باعوا أرواحهم للمول، جعلهم يعبدون نساء ورجال الإعلان على جدرانه، مقابل الماركات التي يشترونها بخصم خاص، والتسكع في أوقات الرّاحة، محاولين، بلا جدوى، التصرّف والشّعور كزبائن". وتقول في نص "البحث عن مكان لركن السيّارة": "نركن سياراتنا في الشّوارع الجانبية، لنخفيها عن عيون رجال الشرطة الذين يطوفون على المركبات، وهم يجرّبون على عجلاتها أحذيةً معدنيةً صفراءَ، كمن يبحث عن سندريلا".
قد يفشل ديوان "ضجر البواخر"، وتجارب جزائرية مجاورة، مثل تجارب لميس سعيدي وخالد بن صالح وآمال رقايق ومحمّد بن جلول، في افتكاك إعجاب الكثيرين، ممّن أسلموا ذائقتهم الشعرية للمساطر المكرّسة والجاهزة، بل إنّ بعضهم قد يُصادر جدارته بالنشر أصلًا، لكنه يبقى محافظًا على سلطة الانخراط في مسعى رصد جماليات اليومي وتفكيك مفرداته ومعارضة السّياسات غير المرئية الهادفة إلى تعليب الإنسان، في مشهد جزائري لم يفكك فخاخ ماضيه، ولا يبدو أنه يُعدّ العدّة لمستقبله، حيث أصبحت المدينة في واقعه، مجرّدَ تجمّعاتٍ إسمنتيةٍ تثمر الضّجر والاستقالة المعنوية والجريمة والقواميس العنيفة.
اقرأ/ي أيضًا: