الأنا لا تعني الأنا التي يحلم بها صاحبها، كذلك النحن لا تعني النحن التي تُعرّف الجماعة بها نفسها، فالأنا والنحن، معًا أو على حدةٍ، مصنوعتان في معامل يعرفها الجميع، تبدأ مع الجينات والأُسرة في حالة الأنا، وتمتد إلى المجتمع والمدرسة والاقتصاد والسياسة في حالة النحن. لدى علم النفس تفسيراته في الحالة الأولى، ولدى علم الاجتماع تفسيراته أيضًا في الحالة الثانية.
تلعب صناعة الإنسان أدوارها النهائية، فتنتج لنا هويّاتٍ فردية وجماعية، وترسم مصائر ونهايات
في هذا المستوى المُتّفق عليه، تلعب صناعة الإنسان أدوارها النهائية، فتنتج لنا هويّاتٍ فردية وجماعية، وترسم مصائر ونهايات، أمّا من يبذلون جهودًا في مراجعة بديهياتهم ونقدها، وإعادة النظر مرّةً تلو مرّةٍ للوصول إلى هوية تستقيم مع تصوراتهم، فهؤلاء ربما يكونون "فئة ناجية".
اقرأ/ي أيضًا: غوغل.. الأخ الأكبر الجديد
سيكون السوء مضاعفًا في ما نرمي إليه لو أمعنا النظر في آليّات التوجيه التي تستعملها السلطة، سياسيةً أو اقتصادية، من خلال شبكة وسائلَ متواشجةٍ، تمتد من مواد إعلامية وإعلانية إلى سياسات تربوية وقوانين وغيرها. ضمن مسار لا تجد فيه اختلافًا جوهريًّا بين الأنظمة كلها، في سعي كلٍّ منها إلى صنع عقول البشر وعواطفهم، وطرق تفكيرهم وردود فعلهم.
من المفيد إلقاء نظرة على عمل أبرز الأنظمة السياسية في عالمنا، الشمولية والديموقراطية، حيث إنّ كلًّا منهما يعمل بطريقة لا تختلف نتائجها عن الأخرى إلا في الأدوات.
يقوم النظام الشمولي، في ملمح عام، على إعلام شديد المركزية، صارم الرقابة، يُصدّر مقولاتٍ ترسّخ مكانة السلطة في الوجدان والسلوك الشخصي. ورغم أنّ الإعلام ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، إذ أنّ هناك تطويعًا منظّمًا للأطفال والشباب من خلال منظمات خاصة، ترتبط بالحزب الحاكم الذي يسيطر على مختلف السلطات، ويصنع رأيًّا واحدًا هو الرأي الذي يريده القائد القابض على الخيوط جميعها، ما يجعل المعارضين خارجين عن الإجماع وفي عداد الخونة، بالتالي لن يُؤسف عليهم حينما ينتهون إلى المعتقلات أو الموت. طبعًا تلعب إلى جانب هذه الأدوات التنفيذية أفكار أخرى مثل صنع العدو، والاستعداد للحرب، ورمزية القائد.. إلخ.
في المقابل، تعمل الأنظمة الديمقراطية بأسلوب يحترم الحريات وحقوق الإنسان، ويراعي القوانين والدساتير، لكنّ ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال غياب أنظمة الضبط والرقابة وآليات التحكّم، بل إنّ القهر اللامرئيّ أشدّ تأثيرًا مما يفعله القهر المرئي وفوقها يدعي البراءة. نظام اقتصاد السوق صانع النزعة الفردية في المجتمعات الغربية جعل الفردية ابتعادًا ونأيًّا عن المجال العام، وتركيزًا على الرفاهية الشخصية بالدرجة الأولى، وبالتالي جعل الإنسان مشغولًا بالاستهلاك الذي يخلق لديه سعادة وهميةً، لا يكترث ولا يبالي بسواها، الأمر الذي يجعله في صميمه نظامًا يعمل، أيضًا، على تدجين الأرواح وتعليب العقول.
بعد انتصار النمط الثاني واعتباره النمط الأكثر مثالية، فإن العولمة، بالفهم الرأسمالي حصرًا، تستطيع تعميم هذا النمط، ما يعني تعميم وسائل التحكم المرتبطة به، وبات سهلًا مع انتشار المنصات والتحوّل من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية الرقمية.
سجّلت الرأسمالية تحولات عديدة في مسارها، أهمها في مرحلة تبني الفكر الليبرالي الجديد، حين راحت تستعين بمعامل في العالم الثالث، واقتصرت مهمتها على التسويق آنذاك، لكنها مع استشراء النزعة الرقمية راحت تسجّل تحولها الأكبر، وباتت تستولي على موارد العالم وأياديه العاملة، ثم بيع ذلك كله إلى أسواق تلك البلدان من جديد، الأمر الذي جعل الفقراء تحت طائلة انعدام الخيارات يصلون إلى اليأس، أمام نوع من إتمام المهام الاستعمارية من دون استعانة بجيوش.
قبل ذلك بزمن، صارت الرأسمالية دِيْنًا، كما قال ماكس فيبر، عبر تحويلها المسيحية إلى رأسمالية، وجاء فالتر بنيامين ليضيف إنها دين بلا لاهوت، المال فيه موضوع عبادة، والأوراق النقدية أصنام أو تجليات للآلهة.
بالنسبة إلى بنيامين، المال صنم صنعه البشر، لكنه اكتسب روحه المستقلة التي بدأت تجذبهم إليها شيئًا فشيئًا، إلى أن غدت أقوى منهم، تمامًا كما حدث مع فكرة الله من قبل. وبالنسبة له أيضًا، هي دِيْنٌ مثقل بالخطايا يحاول فيه الناس التطهر طوال الوقت، فهم مدينون بسبب فشلهم في جني المال، ولا مصير لهم سوى اليأس، فيما الأثرياء، الذين نجوا من خطايا الديون أصفياء مختارون.
بالنسبة إلى فالتر بنيامين، المال صنم صنعه البشر، لكنه اكتسب روحه المستقلة التي بدأت تجذبهم إليها شيئًا فشيئًا
نرى كيف تخلق الدعاية الرأسمالية وهمًا بتحقيق الثروة لدى مختلف البشر، فهناك أفلام عن نجاح المشاريع الطموحة، وكتب تعلّم سُبل الغنى، وبرامج مُمولة من أجل معرفة سرّ هذا الحظ. ونرى أيضًا كيف يعمل سعي الإنسان إلى تحقيق تلك الأهداف إلى إخراجه من دائرة الصراع الاجتماعي، الذي يجب أن يحارب فيه لانتزاع حقه من اللصوص بدلًا من الخضوع إلى دعاياتهم المخادعة. الأهم من ذلك أنه لا ينتبه إلى أنّ الحريّات التي يتحدّث عنها هذا النظام حرياتٌ لا تؤثر في مسار الحياة، بل ترسّخ الوضع القائم، فعلى الرغم من أن الحرية تقوم أساسًا على التنوّع في مناحي الحياة كافة، إلا أن الخيارات المتاحة أمامنا فعليًا مقتصرة على السلع! وأما سياسيًا فليس سوى ثنائيات، يقوم الموقف منها على كلمتي: نعم أو لا.
اقرأ/ي أيضًا: قارئٌ منفي وإستراتيجياته
ضمن ترسمية كهذه، تزداد الاستقطابات حدةً ويتحوّل الإنسان إلى الانشغال بما هو مطروح بدلًا من الانشغال بالسؤال عن غياب الخيارات الأخرى، وبدلًا من الإجابة بـ "نعم" أو "لا" ينبغي أن يُقدم تساؤلاته وشكوكه. لكنّ ذلك شبه مستحيل مع الإنسان المصنوع، بآليات استبدادية، في نظام شمولي أو ديمقراطي على السواء.
فهل نضيف شيئًا بقولنا إنهم صنعوه على هذا الشكل لكي لا يطرح أسئلة؟
اقرأ/ي أيضًا: