أن تمتلك تلفزيونًا موصولًا على شبكة بث، فهذا يعني أنك في كل لحظة ستختبر إيمانك بالقيم الأمريكية. هذه التلفزيونات طوال الوقت تبث أخبار الفواجع والنوازل وصورها وتبث من جهة أخرى أخبار المتنعمين والأثرياء والجميلين والجميلات وصورهم مع أملاكهم ومقتنياتهم.
الاستعراض المبهر الذي يقوم به أمريكيون لأملاكهم وسياراتهم ليس محققًا للسعادة على أي وجه، كما ينص الدستور الأمريكي
كما لو أن جلوسك في مقعد وثير وتشاهد ما تشاهده، يعني بالنسبة لك أنك ما زلت قيد الأمل. قد تنجح في أن تصل إلى جنة هؤلاء الأثرياء المتنعمين، إذا اجتهدت وحالفك الحظ، وقد تسقط في جهنم هؤلاء الذين يعانون من الفواجع والنوازل والحروب، إذا أخطأت في الحساب. هذا المسلك التلفزيوني يذهب أبعد من ذلك كثيرًا. فحين يبث صور القتلى والجرحى والحرائق في سوريا أو العراق أو أفغانستان أو أوكرانيا، يدفع المشاهد إلى التضامن، من جهة أولى، لكنها جهة مواربة، إذ إنه يركز من جهة ثانية أساسية على بث الإحساس في نفس المشاهد بالأمان: أنت لا تعيش في سوريا وما تراه الآن يحصل على الشاشة، وعليه فأنت جزء من هذا الشعب المختار الذي لمجرد حيازته هذه الجنسية يبدو محميًا من هذه الكوارث التي يسببها البشر. أما الكوارث الطبيعية، أي تلك التي تبدو من عمل الله، فهي تجريب لأبناء الشعب المختار. وعليك لتنجو من آثارها المدمرة أن تتبع التعليمات بدقة: لا تخرج من بيتك قبل أن تتأكد من حال الطقس. إذا صادفك إعصار عليك بفعل الآتي. هذه المناطق تتعرض لأمطار غزيرة ويجدر بك أن تتجنب الذهاب إليها إن لم تكن مضطرًا.
هذا التعود ينطبق حكمًا على المقيمين في أمريكا، أما الذين يشاهدون التلفزيون من خارج القارة، فربما يحسبون أن الإعصار الذي ضرب لويزيانا لم يبق أمريكيًا واحدًا على قيد الحياة. وهم في ذلك يغذون شعورًا غامضًا بالحسد والتشفي. ذلك أن المقيم خارج القارة، لا ينفك يندب حظه السيء لأنه لم يتمكن من الانتقال إلى الضفة الأخرى الناجية. وتاليًا فإن الحظ وحده هو الذي جعل هذا الشعب مختارًا للسعادة والأمن والهناء، وفرض على الشعب الآخر الشقاء والذل والعوز.
لكن هذا كله يحجب حقيقة تامة. تلك الحقيقة التي يندر أن يتعرف إليها حتى الأمريكيون أنفسهم، وعند الحديث عن الأمريكيين لا يسعنا استثناء الأوروبيين من هذا الاشتمال تمامًا.
الحقيقة تضمر عكس ما تعلنه التلفزيونات وشبكة الإنترنت. المرأة التي تقبل أن تخرج مع رجل صادفته في بار في أول لقاء لهما، ليست متحررة، إنها على الأغلب وجدت نفسها مضطرة لهذا السلوك، ذلك أنها قد تكون وحيدة منذ أشهر ولم يطرق بابها غير موظفي أمازون لتنبيهها أن طلبيتها وصلت. والشاب الذي يحيي ليل السبت وهو يشرب الخمر ويهيم على وجهه في الشوارع، ليس سعيدًا، بل هو يحاول أن ينسى تعب الأسبوع وجحيم الوظيفة التي تحوله إلى شخص يبيع جزءًا من حياته كل يوم لقاء تدبير ما يعينه على تزجية أوقات الفراغ.
في العالم الأبعد عن العالم المصور، الأمريكي والأوروبي، يتعامل الطامحون والآملون مع هذه الحوادث والوقائع بوصفها أمرًا يبعث على السعادة ويكاد يصنع للمرء جناحين. هناك في تلك البلاد القصية والتي تظهر صورتها مغبشة دائمًا إذا لم تكن الصور المبثوثة هي صور الموت، يحسب المرء أن تمضية لياليه مخمورًا أمر يبعث على السعادة، ويحسب المرء أن سهولة إقامة علاقات غرامية بين الناس، أمر ينبغي وصفه وتثبيته باعتباره مُسعدًا. في حين أن المحسود في هذه المعادلة، وهو والأمريكي والأوروبي، يتوسل بهذه التوسل الدائم لإقامة علاقات ما مع الآخرين، وباللطف الزائد الذي يبديه تجاه الآخر والعابر، أن يمتلك لحظات قليلة من عمره يدعي أنها كانت تنتمي حقًا إلى الحياة.
تُظهر صورة أمريكا ما يخالف حقيقتها وفحواها. وعلى هذه الصورة التي توهم ولا تفصح، تقوم قوة الإعلان الأمريكي الذي يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه
حتى الاستعراض المبهر الذي يقوم به أمريكيون لأملاكهم وسياراتهم وشبابهم والأثداء المصنوعة بالسيليكون والوجوه المستثمر فيها في عيادات التجميل، وهو ما اعترض عليه جوهريًا الرئيس الأمريكي الثاني جون أدامز، ليس محققًا للسعادة على أي وجه، كما ينص الدستور الأمريكي. إنه بمعنى ما إعلان فج أن الأمريكي العادي والسائر لا يملك الوقت ليعرّفك بنفسه وأهوائه، عليك أن تكوّن فكرتك عنه من النظرة الأولى أو الجملة الأولى، لذلك لا يبدو قادرًا أن يفصح عن نفسه أكثر مما تفصح واجهة محل ثياب عن نفسها. المعادلة بسيطة، إذا كان يحمل مفتاح سيارة فيراري ويرتدي حذاء بشعًا ومنفرًا، غاية مصممه من إبراز نفوره وبشاعته أن يلفت انتباه العابرين إلى ثمنه الباهظ، فهذا يعني أن هذا الشخص ميسور الحال ولن يسرق من يتحدث إليه على الأقل، والأهم أنه يملك ما يخشى فقدانه.
في كل هذا، وفي غيره الكثير، تُظهر صورة أمريكا ما يخالف حقيقتها وفحواها. وعلى هذه الصورة التي توهم ولا تفصح، تقوم قوة الإعلان الأمريكي الذي يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، ويفرض عليه، أي هذا العالم، التشبه والتقليد. والمفجع في الأمر أن من يتنطحون لمواجهة ما يظنونه قيما أمريكية، أو تخليًا عن القيم، بالتشديد على القيم التقليدية أو الدينية أو الثقافية، إنما يغذون في نفس من يخاطبونهم رغبة حارة في أن يكونوا أمريكيين. كما لو أن القيم التي ينادي بها هؤلاء، والدعوات المتكررة إلى الصبر على المكاره وضبط أهواء النفس، والعيش في ما يشبه الزهد، تغذي من طرف خفي دعاية أمريكا عن نفسها أو ما تواطأ العالم على اعتباره نمط الحياة الأمريكية المشتهى.