يعتمد وديع سعادة في كتابته الشعرية عدة عناصر سردية، تبدو على درجةٍ عالية، ورفيعة من الدقة، لذا نجد أن القارئ لنصه، يشبه إلى حد ما، المتفرج على شريط سينمائي بألوان طبيعية، وحركات دقيقة، تجعله يتنقل من خلالها إلى عوالم أخرى لم يعهدها. فمثلًا يمكننا أن نقرأ في أحد نصوصه، كيف يتحدث عن العمال، وهو يراقبهم من شرفة منزله: "مهرِّبون بياقات بيضاء/ تحت ثلج ناعم/ ومعطَّلة الآن قشرة الأرض ومحطَّة الشمال/ حيث كان يجب أن نذهب".
تعيدنا نصوص وديع سعادة إلى زمن غابر، لا يمكننا أن نحلم به إلا ونحن نبتسم
بهذه البساطة يستمر سعادة في رحلته في تدوين نصوصه، وحيواته الجديدة، ويعيدنا إلى زمن غابر، لا يمكننا أن نحلم به إلا ونحن نبتسم. إذ إن حالة الشاعر هذه، تشبه السَّكينة التي تأتي بعد جهد، أي تلك السكينة التي تتجسد على هيئة رجل عجوز، أو بمعنى أصح، سكينة تتقمص هيئة رجل جالس على أريكة وإلى جانبه أوراقه، وزجاجة عرقٍ لبناني. ومن ثم لنكتشف أنه ما من شيء يعكر صفوه، وما من أصدقاء حوله غير الجدران الكئيبة. بهذه العناصر البسيطة لكل ما يكتبه، يمكن للمتلقي معرفة، كيف يستمد سعادة قوته، وقدرته على الإنصات لأي صوت، مهما كان خافتًا وهامسًا.
جميع الأمور الحياتية مستعملة، وتفقد بريقها وجديتها يومًا إثر يوم، غير أن الشاعر يعيدُ الحياة إليها، إلى أوردة الغياب، ويضخ فيها الدم الجديد، دونما كلل، مثابرًا على المضي نحو عمق التفاصيل المغيبة، الشاعر بمقدوره أن يكون بحارًا، أو عامل منجم، أو حتى قاتلًا، دونَ أن يتحرك سنتيمترًا من مكانه الصغير، فرقعة الشاعر في النهاية، ليست سوى عالم واسع مليء بكل ما هو مغيب أو ضبابي. وهذا ما يفعله صاحب "من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب"، في نصوصهِ الطويلة، التي يناجي فيها الأصدقاء القدامى، الذين استلقوا يومًا ما على الأريكة التي يقعدها، أو استعملوا الأواني والكؤوس، إنه مكانهُ الصغير المليء بالأشياء الصغيرة والكبيرة، على نفس السوية، لا بل بشكل أشد يتابع سعادة تدوينه الخاص به، ويرسُمُ حدود بلاده التي يحرسها، بأبسط وأرق الكلمات.
حدث وأن تعرفت على ما كتبه وديع سعادة، كنتُ وقتها أخدم في ثكنة عسكرية، شاءت الأقدار أن أكون فيها عاملًا على الحاسوب، في الإجازات كنت أنسخ إلكترونيًا مجموعاتٍ لوديع، ومن ثم أطبعها على الورق، أمضيت ليال شتائية وأنا أتفحَّصُ الكلام المدون، كنت مدهوشًا ولا أزال بهدوء الشاعر ورزانته، وفجأة أتنفس الصعداء، فور انتهائي من قراءة نص مشاكس، لأتأكد من عبثية الكتابة عبر التاريخ، أنهيت الخدمة العسكرية، ونسيتُ بعضًا من الأوراق في غرفتي الصغيرة، المطلة على صحراء ملوثة بسلاسل الدبابات الغارقة في الدم حاضرًا، لا أعلُم الآن من هو الجندي الذي حالفه الحظ في العثور على تلك الأوراق، وأمضى وقتًا ساحرًا في القراءة، والغياب في التفاصيل المدونة على البياض الأليف.
رقعة الشاعر ليست سوى عالم واسع مليء بكل ما هو مغيب أو ضبابي
حدث أيضًا أنني كنت في بيروت خلال العام 2012، وافدٌ كردي يعشق بيروت العاصمة، بفضل الأسماء التي كنا نقرأ لها، تعرفتُ على وديع سعادة بدايًة عبر صفحته الشخصية في موقع فيسبوك، كنتُ أشك في أنه هو نفسه الشاعر، مع الأيام تأكدت من خلال ما يكتبه على صفحته الشخصية من كلامٍ رقيق، أنه ذات الشاعر.
وحدث مرة ثانية في بيروت، أن أقامت "دار نيلسون للنشر" أمسيًة له أثناء زيارته لبيروت، كنتُ من أول الحاضرين، لكنني غير متيقِن أنني سأراه. جسدٌ صغيرٌ، وشعرٌ أبيضٌ، بفعل الكتابة والتأمل، خلال الأمسية عرفني الشاعر إسكندر حبش، واضعًا فمه في أذن وديع سعادة، لنقصٍ ما في درجات السمع، وكأن الآلهة تفهم الشاعر في أن تسلب منه هذه الحاسة، لتبقى الأصوات في دماغه نظيفةً غير مشوبة بغبارِ الأصوات الناشزة، هذا الفتى كرديّْ، هزّ رأسه متأملًا، كنتُ مذهولًا سارحًا مستذكرًا نصوصه، كنت أريدُ صورًة تجمعني به، لم أفطن إلى ضرورة وجودِ كاميرا معي، من بين الحضور أبصرتُ شابًا بيده كاميرا رقمية، أشرتُ إليه بالتقاط صورة، وأنا أقتربُ من سعادة، بخجل استقام، والتقطت الصورة، الصورة للأسف بقيت في ذاكرتي فقط، اختفى الشاب، وكأن الأرض انشقَت وابتلعته، أيام طويلة أمضيتها ذهابًا وإيابًا أمام الصالة التي أقيمت فيها الأمسية الخيالية، أملًا في العثور على ذلك الشاب لأخذ الصورة منه، ولكن دونما فائدة.
اقرأ/ي أيضًا: