12-نوفمبر-2023
دبابة إسرائيلية على حدود غزة

وضعت عملية طوفان الأقصى الصناعات الدفاعية الإسرائيلية موضع شك وتساؤل (Getty)

يُنظر إلى التفوق الأمني والعسكري داخل "إسرائيل" بوصفه أولوية استراتيجية لأسباب عديدة، أهمها أنه ما يضمن بقاءها واستمراريتها بوصفها مشروعًا استعماريًا استيطانيًا لا يستطيع البقاء دون ترسانة أمنية وعسكرية ضخمة ومتطورة، يستطيع عبرها مواجهة وردع التحديات الداخلية والخارجية، وتحقيق عوائد مالية ضخمة عبر تصديرها تمكّنه من الحفاظ على ازدهار اقتصاده.

ومثّل السعي إلى تحقيق هذا التفوق هدفًا ذا أولوية لجميع قادة الاحتلال على مدار السنوات الـ75 الماضية. فمنذ عام 1948، لم تكن عملية بناء الدولة، بما في ذلك الاقتصاد والمجتمع، منفصلة عن عملية تأسيس صناعات دفاعية وأمنية تتيح مراكمة ترسانة عسكرية ضخمة تُستخدم للردع والتوسع.

بلغت عائدات دولة الاحتلال من تصدير الأسلحة والتقنيات الأمنية والسيبرانية 139 مليار دولار، بينها 12.5 مليار في عام 2022 وحده

وقد سخّرت "إسرائيل" لتحقيق مساعيها هذه إمكانيات وموارد مالية ضخمة مكّنتها من أن تُصبح "دولة متقدمة" على مستوى الصناعات العسكرية والأمنية والتجسسية – السيبرانية. فخلال السنوات القليلة الماضية، صُنّفت دولة الاحتلال كثامن أكبر مصدّر للأسلحة بنسبة 3 بالمئة من مجمل سوق الأسلحة.

وبلغت عائدات دولة الاحتلال من تصدير الأسلحة والتقنيات الأمنية والسيبرانية 139 مليار دولار، بينها 12.5 مليار في عام 2022 وحده بحسب وزارة الدفاع الإسرائيلية، وهو ما يُشير إلى تضاعف مبيعات الأسلحة والتقنيات الدفاعية والأمنية بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية.

واللافت أن جزءًا كبيرًا من استراتيجية "إسرائيل" في الترويج لأسلحتها وتقنياتها، يقوم على مسألة أنها ذات فعالية عالية جرى التأكد منها خلال استخدامها ضد الفلسطينيين، خاصةً في قطاع غزة، الذي يرى إليه قادة دولة الاحتلال بوصفه حقل تجارب لأسلحتهم وتقنياتهم العسكرية والأمنية منذ عام 2006.

لكن هذه الاستراتيجية لم تعد فعالة بعد تنفيذ "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، والتي استطاع مقاتلو "القسام" خلالها استهداف عدة مواقع لجيش الاحتلال في غلاف قطاع غزة، والسيطرة على قاعدة عسكرية كبيرة وعدة مستوطنات، إضافةً إلى قتل أكثر من ألف عسكري ومستوطن وأسر ما يزيد عن 230.

هزّت "طوفان الأقصى" الصورة التي بنتها "إسرائيل"، على مدار عقود، عن صناعاتها وتقنياتها الدفاعية العسكرية والأمنية "شديدة التفوق" التي عملت على ترويجها عبر آلة إعلامية ضخمة ومكرّسة لإثبات تفوّقها في هذه المجالات، وذلك قبل أن تُثبت العملية وما تلاها من أحداث، فشل جزء كبير منها.

فشل استخباراتي ذريع وغير مسبوق

تمثَّل الفشل الأول في عجز الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، سيما الاستخبارات العسكرية "أمان" والمخابرات العامة "الشاباك"، في توقع عملية "طوفان الأقصى"، أو حتى الحصول على أي معلومة بشأنها رغم ما تتوفر لديها من إمكانيات تقنية واستخباراتية هائلة، إضافةً إلى برمجيات التجسس السيبراني التي أصبحت الشركات الإسرائيلية أهم مطوّريها ومصدّريها خلال السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها برمجية "بيغاسوس"، التي تُعد الأخطر والأكثر تعقيدًا.

وقد وضع فشل "إسرائيل" في توقع العملية، رغم إخضاعها قطاع غزة لمراقبة دقيقة شديدة التعقيد وعمليات تجسس مكثفة على مدار الساعة؛ تقنياتها الاستخباراتية والأمنية والتجسسية – السيبرانية موضع شك وتساؤل، داخليًا وخارجيًا، لا بد أن ينعكس بشكل أو بآخر على صورتها كأكبر مصدّر لبرمجيات التجسس السيبراني، وبالتالي على جزء مهم من اقتصادها القائم في جزء كبير منه على تصدير الأسلحة والمنتجات العسكرية والتقنيات الأمنية والتجسسية وغيرها.

بلا جدوى.. انهيار الجدار العازل

يتمثّل الفشل الثاني للصناعة والمنظومة العسكريتين الأمنيتين الإسرائيليتين في قدرة عناصر المقاومة الفلسطينية على اجتياز الجدار الأمني العازل، الذي بنته "إسرائيل" حول قطاع غزة وزوّدته بأبراج مراقبة ورادارات وكاميرات والعديد من المعدات والتقنيات الأمنية الأخرى بهدف منع مقاتلي المقاومة من التسلل إلى غلاف قطاع غزة.

هزّت "طوفان الأقصى" الصورة التي بنتها "إسرائيل"، على مدار عقود، عن صناعاتها وتقنياتها الدفاعية العسكرية والأمنية "شديدة التفوق"

ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، إذ استطاع مقاتلو "كتائب القسام" تدمير أجزاء من الجدار والعبور منه باتجاه مواقع جيش الاحتلال وأكثر من 20 مستوطنة.

وبخلاف ما روّجته عنه "إسرائيل" بوصفه: "مشروع مبتكر ومتقدّم تكنولوجيًا يمنح المواطنين الإسرائيليين شعورًا بالأمان"، بحسب وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق بيني غانتس؛ بدا الجدار الذي يبلغ طوله 65 كيلومترًا، وبلغت تكلفته أكثر من مليار دولار أمريكي، والمزوّد برادارات وأجهزة استشعار وكاميرات وأنظمة أسلحة يمكن التحكم فيها عن بعد؛ بلا جدوى أمام أول تحد حقيقي له.

ولأن الجدار وتقنياته في النهاية نتاج الصناعة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، فقد شكّل اختراقه بهذه السهولة صدمة كبيرة للقيادة الإسرائيلية والقائمين على رأس الصناعات الدفاعية، الذين وضعوا فيه وفقًا لما روّجه الإعلام الإسرائيلي، خلاصة إبداعاتهم التقنية.

من حاملة جنود إلى مقبرة

في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، وجّهت "كتائب القسام" ضربة جديدة وقاصمة للصناعات الدفاعية الإسرائيلية باستهدافها مدرعة "النمر"، شديدة الأمن والتحصين، بصاروخ مضاد للدروع روسي الصنع، ما أدى إلى مقتل 7 جنود إسرائيليين كانوا بداخلها.

تسبّبت الحادثة بصدمة كبيرة داخل الجيش الإسرائيلي، فالمدرعة تكاد تكون فخر صناعته العسكرية خلال السنوات الأخيرة، وقد استثمر في تطويرها أموالًا طائلة، وقام بتزويدها بتقنيات ومعدات حماية وصفت بأنها الأشد تطوّرًا على مستوى العالم، بهدف ضمان مقاومتها للصواريخ المضادة للدبابات والدروع، وصواريخ "آر بي جي".

وضعت عملية "طوفان الأقصى" الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية والسيبرانية الإسرائيلية موضع شك وتساؤل

بلغت تكلفة المدرعة الواحدة حوالي 3 ملايين دولار، ولطالما تباهى قادة جيش الاحتلال بقدراتها وإمكانياتها التي جعلت منها "أسطورة" تمكن مقاتلو "كتائب القسام" من تدميرها.

وضعت عملية "طوفان الأقصى" الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية والسيبرانية الإسرائيلية موضع شك وتساؤل بعد فشلها في توقع العملية من جهة، وعجزها عن الصمود أمام ضربات المقاومة من جهة أخرى، ما يعني اهتزاز صورة تقدّمها التقني والاستخباراتي شديد التفوق. كما مثّلت هزيمة معنوية كبيرة للصناعات الدفاعية الإسرائيلية قد تؤثر على ثقة المستوردين مستقبلًا. ناهيك عن اهتزاز ثقة الإسرائيليين بقدرة جيشهم وأجهزتهم الأمنية، وكذلك تقنياتهم، على حمايتهم.