"يا إخوتي الّذين يعبرون في الميدان
منحدرين في نهاية المساء، في شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا، ولترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلّقون جانبي. على مشانق القصير"
بضع والكثير، من اللغو اللغويّ، الأيديولوجيّ، السياسيّ، الأخلاقيّ، مرّ عبر غبار حلب، يصرخ أنّ الطريق إلى القدس، لا تكون إلّا عبر حلب، عبر دمائها، أشلائها، وأنهار الموت في زقاقها المهدّمة.
إنّها الأغنيّة القديمة ذاتها، يقول رسل مينز، عن الأيديولوجيا.
قديمًا، وليس قديمًا جدًا، كان الطّريق إلى القدس، يمرّ عبر السّجون، والقمع. كان يمرّ عبر العواصم جميعها، وهذه القدس، ظلّت، بلا عابرين، سوى العابرين أنفسهم، ولم يمرر عبرها أحد غيرهم.
الأغنيّة القديمة ذاتها.
منذ عقود طويلة، واليسار يتخبّط في هذه المنطقة كما لم يتخبّط يسار في أيّ مكان من العالم. ولن أذهب إلى حدّ البحث في تاريخ اليسار، يهمّني الآن وفقط.
منذ أن بدأت الثّورة السّوريّة، وهذا اليسار ينشغل كما لم ينشغل يسار من قبل، بتفريغ الثّورة نفسها من روحها، تفريغ سوريّا من هويّتها الثقافيّة، من روحها، وتفريغ المنطقة نفسها من أيّ شيء، عدا المادّة، والحسابات السياسيّة والأيديولوجيّا، على حساب الإنسان نفسه. تفريغ أدّى به، إلى أن يرى القاتل والطّاغية والدكتاتور، حليفًا، مناضلًا، مقاومًا، وأن يرى في الضّحيّة، قاتلًا، متطرّفًا، إرهابيًّا، أو أضرار جانبيّة لا بدّ منها.
كان الطّريق إلى القدس، يمرّ عبر السّجون، والقمع. كان يمرّ عبر العواصم جميعها، وهذه القدس، ظلّت، بلا عابرين، سوى العابرين أنفسهم
في الثّورة، يخرج الإنسان عن الحالة الاستثنائيّة التي يعيشها والتي تتألّف من القمع، وعالم من الخوف ممنهج بصورة مادّية شديدة الوضوح، مؤلّفة من السّجن والقتل، والمؤسّسة الأمنيّة المحكمة البناء. يخرج من هذا كلّه إلى فضاءات الحرّية المفقودة، الحالة الطّبيعيّة التي يجب أن يكون فيها. هناك حيث لا مادّة، لا شيء، لا أيديولوجيا، لا فكر.
اقرأ/ي أيضًا: يسار فلسطيني.. متآمر على الفلسطينيين!
الثّورة حينما تصبح فكرًا، تبدأ بقتل أبنائها. هكذا خرج الشّعب السوريّ في بداية الثّورة، حرًا من كلّ شيء، عدا إنسانيّته البسيطة، بأبسط صورها، بالدّوران، بالاحتجاج، بالصّراخ، بالغناء.
أمام هذا الطّوفان الإنسانيّ، كان لا بدّ للثورة من أعداء يقومون مرّة أخرى بتشكيلها وفقًا لأهوائهم، كي يعرفوا لماذا وكيف ولماذا يجب أن تقتل هذه الثّورة، ولماذا يجب أن يذبح الإنسان.
بالطّبع، كما كان دائمًا، كان اليسار حاضرًا في مقدّمة هؤلاء. بالتنطّع النظريّ، بالمقولات الجاهزة، بالاستعارات البهلوانيّة من تاريخ أوروبيّ له خصوصيّته وأخطاؤه الكارثيّة التي لا ترى، بتجاهل تامّ لحجم المذبحة، وبقدرة هائلة على تبرير القتل، وتجريد الثّورة من إنسانيّتها وتفريغها من روحها وتحويل سوريّا بأكملها إلى مادّة، مادّة نظريّة، مؤلّفة من هذه المعادلات الرّياضيّة التي لا تمتّ لواقع بصلة.
كلّ ما في الأمر: أنّ على الشّعب السوريّ، أن يعود إلى حالته الاستثنائيّة، وعليه أن يتخلّص من عبء روحه الإنسانيّة بأن يلقيها في القمامة، في المزبلة، لأنّ لا وجود للإنسان في هذا العصر، وكلّ ما هنالك هو أيديولوجيا الجنون وطاغية مستعدّ لأن يقتل شعبًا بأكمله من أجل أن يبقى.
هكذا، تداخلت التبريرات، وتكاتفت في ذات الوقت، ليبراليّة، يساريّة، قوميّة، دينيّة.
خرج الشّعب السوري في بداية الثورة، حرًا من كلّ شيء، عدا إنسانيّته البسيطة، بأبسط صورها، بالدوران، بالاحتجاج، بالصّراخ، بالغناء
كان على الثّورة، أن تشلح ذاتها، أي أنّها لم تكن ثورة سوريّة، بل ثورة مستوردة، من باكستان، أفغانستان، ليبيا، وبصنع أمريكي، بريطاني، تركيّ، إسرائيليّ. هي ليست سوريّة وحسب. ولذا، قتلها واجب.
كان على الثورة، أن تشلح هويّتها، أي أنّ التديّن الشعبيّ، ليس من صفات سوريّا، وأن المتديّنين الذين يشاركون في الثّورة، ليسوا إلّا أدوات خارجيّة. السّوريّون، ليسوا مسلمين هكذا! عليهم، أن يعيدوا النّظر في طبيعة دينهم. هكذا، هؤلاء ذوي اللحى الذين رأيناهم، إن كانوا يحملون سلاحًا يدافعون به عن أنفسهم، أو أبناء لهم قتلوا، ليسوا سوى إرهابيين.
كان على الثّورة أن تنتظر قرنًا آخر، فالقدس لم تزل محتلّة، فلا مكان للديمقراطيّة، أو أيّ نظام حكم آخر، فيه فسحة من الحريّة، لشعب مقهور. لا بدّ أن يبقى سجن تدمر، لا بدّ أن يبقى لكي يحفظ أعداء نظام الأسد، لأنّه حلقة الوصل ما بين عاصمة وأخرى، ما بين بلد وحزب، ولأنّ ثأرًا لم يحقّق بعد منذ قرون، وباسم هذ الثّأر، سيبقى الأسد.
كان على الثّورة أن تكون مؤدّبة، فحين خرجت من أجل الحريّة وتلقّت الرّصاص، كان يجب أن تتوقّف، لماذا هذه الوقاحة كلّها؟ كان عليها أن ترجع إلى بيوتها، وأن تجرّ إلى السّجون، كي تحاسب على سوء أفعالها وصراخها وغنائها وسلميّتها، كان عليها أن تفعل ذلك، ولم تفعل.
اقرأ/ي أيضًا: حلب... أوسع من موت معلن
كان على الثورة أن تستجيب لحوار الطّرشان ولم تفعل، كان عليها أن تستمع لليسار الفلسطينيّ، ولأوهامه الكبرى، ومغالطاته التاريخيّة العظيمة، ولقدرته المرعبة على اجتراح معجزات فكريّة تبرّر قتل شعب بأكمله، تمسّكًا بالطّاغية، وقدرته على اجتراح يسار ديني شيعيّ يلبّي باسم الحسين، ويحاسب المقاومة من أبناء جلدته على أنها متديّنة، ويقدّس السيّد فوق ماركس وإنجلز ولينين وستالين وغيرهم، ولا يرى في ذلك عوجًا.
يسار يقدر على تفريغ ثورة من مضمونها، واستبداله بمؤامرة، ويتّهم من يقف مع الإنسان بأنه مراهق فكريًّا، ويقول إنّ تاريخ العالم ليس إلّا تاريخ القوّة والسّياسة، ولذا، تجاهلوا يا إخوتي قوّة الدكتاتور، ليست إلا تاريخًا، والموتى تاريخ أيضًا، والأرض المحروقة تاريخ أيضًا، والتّحالفات تتقاطع، ولذا علينا أن نتقاطع ونقطّع جذورنا الإنسانيّة بأسناننا كي نستطيع ممارسة السياسة.
منذ بدأت الثورة السورية، وهذا اليسار ينشغل بتفريغ الثّورة نفسها من روحها، تفريغ سوريّا من هويّتها الثقافيّة، من روحها
ليس الأمر سوى سياسة، والثّورة خرافة، صحيح أنّ الماركسيّة هي فكرة ثوريّة، ولكن، حقًا استطاع اليسار أن يفهم الأمر على حقيقته: إنّها فكرة ثوريّة، تمامًا كفكرة حزب الله، فكرة ثوريّة، لا إنسانيّة ولا هي من أجل الحريّة، إنّها ثوريّة في أنّها مختلفة عمّا قبلها، تمامًا كالليبراليّة، تمامًا كأيّ دين، تمامًا كأيّ أيديولوجيّا، ولها أعداؤها، ولها من يستثنون من قاعدة تقديس الحياة البشريّة فوق أيّ شيء، وعليه يجب أن يقتلوا.
لم يكد يبزغ نجم السيّد، وتعالت الوجوه للحيّ الذي لا يموت في جبل لبنان، حتّى خرج شعب في مكان ما، يصرخ بالحريّة، واصطدمت المصائر، وهؤلاء الذين رفعوا وجوههم لم يصدّقوا أن الخرافة على وشك أن تنتهي، لم يصدّقوا أن رجلًا كهذا، وبناءً كهذا البناء على وشك أن ينهار.
هكذا، من يحملون الشّعور بالغبن والظّلم والمظلوميّة التاريخيّة، لم يكن لديهم مانع في أن تقذف القاذفات الرّوسيّة حلب وتحرقها، لأنّ الغبار كلّما تعاظم كلّما تعاظمت الطّريق إلى القدس، لأنّ في هذه القاذفات أمل في الحفاظ على البناء، في الحفاظ على الخرافة، ولكي تتسع الأنا أكثر وأكثر ويمّحى الآخر، أيًّا كان هذا الآخر.
اقرأ/ي أيضًا: في بؤس مثقف الفقاعة
هكذا يبرّر القتل. هكذا تكون حلب غبارًا كونيًّا يرسم معالم الطّريق إلى القدس.
من يشعرون بالمظلومية التاريخية لم يمانعوا أن تحرق القاذفات الروسيّة حلب، لأن الغبار كلما تعاظم كلّما تعاظمت الطّريق إلى القدس
يا إخوتي، ولندع لأنفسنا حقّ الدّخول في منطق اليسار الفلسطينيّ هذا. هنا، كان من الممكن لنا، لبعضنا، للقليل منّا، لو كان هذا المنطق صحيحًا، أن نتخلّى عن كلّ شبر من هذه الأرض، أن نعود مرّة أخرى لاجئين سذّجا نصدّق أنّ بلادنا قلب الخريطة، لن تصاب بأيّ سوء، ونشارككم في مخيّماتكم أنتم أيضًا. لو كان لنا هذا الأمر. إلّا أنّ هذا المنطق يفتقر لأقلّ درجات الفهم المنطقيّ، للسياسة أو للتاريخ أو للفكر. كان على سوريا أن تتسع لأبنائها أكثر من أيّ بلد آخر. إلّا أنّ ثورتها حقًا اصطدمت بهذا العصر.
عصر قادر على تفريغ نفسه من كلّ شيء. عصر في إحدى جوانبه، هو عصر الانتحار. وفي جانب آخر، هو عصر أولئك القادرين على عدم الشّعور بالذّنب، ولديهم ما يكفي من القوّة الفكرية الصّماء على تحويل الضّحايا في أيّ لحظة إلى مجرمين وإرهابيين. ولديهم من القدرة اللغويّة ما يكفيهم من اجتراح لغو لغويّ يمكّن آخرين ضعفاء يكادون يسقطون في "مستنقع" الإنسانيّة، من استعادة شراستهم ووحشيّتهم في التهام صراخ المعذّبين في الأرض، لكي يمشوا مطمئّنين وواثقين، من صدق نبوئتهم.
ولماذا كان على حلب أن تظلّ صامدة في كلّ حال؟ وهل كان لها أن تنتصر إلّا معمّدة بالدّم وممحوّة عن وجه الأرض؟ كان عليها أن تسقط في كلّ حال، ففي سقوطها انتصار، لـ"ترفع قشتالة تاجها فوق مئذنة الله"، ونسمع خشخشة للمفاتيح في باب "تاريخها الذهبيّ". وداعًا لتاريخها.
اقرأ/ي أيضًا:
في وصف جحيم حلب
جدران الموت والجنون