لا يمكن للمرء تفهم طبيعة الخطاب البلاغي الساذج المبثوث في ثنايا كتاب "حافظ الأسد مدرسة قومية خالدة" (2002) لمحرره الإعلامي الراحل أحمد صوان، المأخوذ عن الشهادة الشفوية لوزير دفاع الأسد السابق مصطفى طلاس، التي ذهب فيها حد رفع الأسد إلى مصاف عظماء القرن العشرين، ورفع طبائع شخصيته الغامضة إلى مستوى السر الكوني العظيم: "حافظ الأسد هو أحد عظماء القرن العشرين، فقد كان الأكثر قدرة على رؤية جوانب المسألة بشمولية وإدراك عميق، ناهيك عن الوقار والتواضع والصدق وحكمة القول، الأمر الذي جعل العالم مسحورًا باحثًا عن سر شخصيته"، دون أن يدرجه ضمن طابع البلاغة الإنشائي "لظاهرة تعظيم الأسد" التي اتخذت منها الباحثة الأمريكية ليزا وادين في كتابها "السيطرة الغامضة" الفرضية الأساسية للكشف عن الغايات والأساليب التي انطوت عليها تلك الظاهرة لإخضاع السوريين لسلطة الأسد المطلقة.
منذا الذي يستطيع أن يجاهر بالقول إن الأسد ليس رمزًا للثورة العربية في معرض استماعه لأحد الرفاق الحزبيين وهو يتشدق بإنجازات قائده الفذ على الصعيد القومي؟
عميقة ونافذة هي فرضية وادين الخاصة بظاهرة تعظيم الأسد، إلا أنها في الوقت نفسه صادمة على نحو مروع، ذلك أن الأسد في محاولته لرفع نفسه أو سلطته المشخصنة إلى مستوى الألوهية المطلقة، ولم يحاول بذل أي جهد ممكن لإقناع محكوميه بصدق ما يقوله عن نفسه كما ذاته المتألهة، وبقدر ما يترك للسوريين أن يصدقوا جميع ادعاءاته عن البطولة والرعاية الأبوية دون أي احتجاج يذكر، رغم معرفته المسبقة بأنها لا تتعدى مستوى الكذب الزلال. فمنذا الذي يمكن له أن يصدق بأنه الصيدلاني الأول والفلاح الأول والمعلم الأول؟ ومن ذا الذي يمكن أن تنطلي عليه هرقطاته عن الخلود والأبدية، المكدسة على نحو عجائبي في ذلك الشعار المدرسي الممجوج "قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد"، اللهم إلا من باب المبالغة الفجة المولدة للضحك؟
اقرأ/ي أيضًا: شيفرة حافظ الأسد
في ظاهرها تبدو قضية تصديق الكذب الأسدي كما لو كانت نوعًا من المجاملات العامة، التي تندرج ضمن آداب الحديث التي يحرص فيها المستمع على عدم وصف شطحات محدثه الخيالية بالكذب، إما تحاشيًا للاصطدام معه أو التقليل من شأنه، إلا أنها في العمق مرعبة على نحو مخيف. فنحن في سياق الكذب لا نصدق الكذب الأسدي وحسب، بل نتواطأ على الذهاب معه وترديده كما لو كان حقيقة ماثلة للعيان. فمنذا الذي يجرؤ على القول إن الأسد ليس أبًا لجميع السوريين، في تجمع تشرف عليه المخابرات أو أحد من أعوانها؟ ومنذا الذي يستطيع أن يجاهر بالقول إن الأسد ليس رمزًا للثورة العربية في معرض استماعه لأحد الرفاق الحزبيين وهو يتشدق بإنجازات قائده الفذ على الصعيد القومي؟
لا تهدف ظاهرة تقديس الأسد القائمة على تقنية البلاغة الكاذبة إلى تدجين الناس، أو إخراجهم من السياسية، أي حقهم في تقرير شؤون حياتهم اليومية وحسب، بل إلى تدمير الطابع الشخصي لكل منهم عبر تذكيره بأنه معزول وعاجز عن التغيير والفعل كما الاحتجاج، ذلك أن منطق الكذب الأسدي يقوم على فكرة تشجيع الناس المعزولين على النفاق والشطط فيه، كما التنافس فيما بينهم على إنتاجه وتسويقه إلى أقصى مدى ممكن، على النحو الذي نراه في كتاب أحمد صوان، الذي شاء الشريكان المنافقان، صاحب الحكاية ومدونها، على أن يكون بمفعول رجعي، يتجاوز وفاة صاحب ظاهرة الكذب بعامين كاملين.
واحدة من مآزق السلطة الأسدية وهي تعمل على تحويل السوريين إلى مجموعة من الناس المعزولين عن بعضهم البعض، على النحو الذي لا يتحرج البعض منهم من إبلاغ المخابرات عن مقاومة إخوتهم، الذين يحاولون التفلت من الخضوع لمنطق الكذب الأسدي ومآزقه الوجودية؛ أنها تنسى أن الكذب غير القابل للتصديق سلاح ذو حدين، فإذا كان يصلح لتدجين الناس وتدمير ثقتهم فيما بينهم كيلا لا يستطيعوا الانتظام في أي نوع من أنواع الاحتجاج المنظم ضد السلطة، إلا أنه في الوقت نفسه مادة للتفكير في الكذب من أجل دحضه. فكيف يعقل أن يكون الأسد أبًا للسوريين فيما هو في الحقيقة العيانية لا يخرج عن كونه أبًا لنفسه، أو على أبعد تقدير أبًا لعائلته، أو لجماعته الأهلية، أو قل للجزء الذي يمد له يد العون في محاولات الضبط والاخضاع، بينما بقية السوريين متروكين لقدرهم في تحمل النقص في كل شيء، من الكرامة وصولًا إلى الحاجات والخدمات الأساسية الضرورية للعيش.
مع أن ظاهرة تعظيم الأسد شأنها في ذلك ظاهرة التعذيب الممنهج في سجونه قد صمّمت بقصد الإطباق على السوريين وإخراجهم من السياسية، عبر نزع الطابع الإنساني عنهم في دفعهم لتصديق الكذب، ومن ثم إدراجه في بنيتهم الجسدية في جميع الحالات التي تضطرهم الظروف لحمل صور الرئيس وترديد الشعارات الممجدة لشخصه. فإن نقطة ضعفها الأساسية تكمن في تركيزها على التماهي مع الكذب، دون أي محاولة لتثبيته في الوجدان الشخصي للفرد على النحو المعمول به في الدولة الشمولية بنسختها الستالينية وأختها المعاصرة، دولة الأخ الكبير كيم إيل سونغ وورثته من بعده. الأمر الذي يجعل أمر مقاومتها ممكنًا على الصعيد الفردي، أو على مستوى الجماعة الصغيرة عبر تقنية النكته.
في مسلسلات التنفيس، حرصت السلطة على تنزيه الذات الأسدية عن القصور الإداري والفساد الحكومي عبر تحميله لصغار الموظفين
تنطوي النكتة في حد ذاتها على فعل مقاوم، ذلك أن الفرد سواء في حالة كونه ناقلًا لها أو مستمعًا، فإنه يبدي استعدادًا نفسيًا عاليًا لاستعادة نفسه المشطورة بين رفض الكذب والتماهي معه. فما النكتة في الجوهر سوى تعرية وهدم لفكرة الكذب؛ كذب الحاكم وكذب الذات المغلوبة على نفسها، والتعريض به عبر فضح طابعه المضاد لكل منطق عقلي كما في حالة "الفلاح الأول".
اقرأ/ي أيضًا: عندما مات حافظ الأسد!
مع ذلك فإن الطابع المقاوم للنكتة ظل حبيس الفعل الفردي غير القادر على الإفصاح عن نفسه على شكل علني، الأمر الذي جعل منها سلوكًا تنفيسًا لذات معذبة تنوس بين حدي تصديق الكذب والتماهي معه.
إذا كانت النكتة السياسة هي مفتاح مقاومة ظاهرة تقديس الأسد، فإن الكوميديا السياسية في المسرح، والكوميديا السوداء في السينما، قد أحدثتا نقلة نوعية في تلك المقاومة. ذلك أن النكتة أو اللوحة الكوميديا في المسرح تتم في جو من كسر عامل العزلة التي سعت إليه الأسدية، ففي مسرحيات محمد الماغوط كما في أفلام أسامة محمد ونبيل المالح وسمير ذكرى، تحضر النكتة في جو من الألفة الاجتماعية والحس الجماعي الرافض للكذب السلطوي، على العكس من الكوميديا المنزلية التي نهض بها مسلسلا بقعة ضوء ومرايا.
مع ذلك يتساءل المرء كيف أمكن للسلطة الأسدية أن تتسامح مع ظاهرة النقد تلك، سواء في المسرح والسينما أو في الدراما التلفزيونية، مع علمها المسبق أن ذلك النقد يستهدف منطق زيف أكاذيبها في الأبوة الأسدية والبطولات المتخيلة في الدفاع عن الأرض السليبة والعمل على استعادتها، كما يستهدف كسر حالة العزلة التي تفرضها على محكوميها عبر جعل عيبوبها ونقائصها مادة للضحك المباح؟
لكنه سيكتشف أن السلطة في سماحها بمثل هذا النقد لم تكن تحرص على حل مشكلة التناقض بين الادعاءات الرئاسية والوقائع العياني، عبر ظاهرة تنفيس الاحتقان في أوساط المحكومين المفجوعين بوقاحة الكذب وحدته، بقدر ما كانت تحرص على ترسيخ فكرة تنزيه الذات الأسدية عن القصور الإداري والفساد الحكومي، عبر تحميله لصغار الموظفين الذين يستغلون طيبة قلب الأب المشغول بقضايا السياسية الخارجية، المهمومة بضمان سلامة المواطنين كما أبنائهم من أي عدوان خارجي قد يطال سلامتهم الشخصية.
إصرار الناس على إطلاق شعار "يلعن روحك يا حافظ" يأتي من كونه محاولة رمزية لرمي تلك الروح الفاسدة في باب اللعنة الأبدية
في الـ 15 من آذار/مارس 2011، أثبت السوريون هشاشة ظاهرة تعظيم الأسد، التي حاولت كل ما بوسعها لابقائهم في دائرة أكاذيبها الرئاسية، هذا ناهيك عن إثباتهم لامرين اثنين؛ تمثل الأول باستحالة إخراجهم من السياسية، فيما تمثل الثاني بقطعهم مع تلك الأكاذيب التي كانت تصر على الطابع الخالد للذات الأسدية. الأمر الذي يفسر إصرار الناس على إطلاق شعار "يلعن روحك يا حافظ" لكونه محاولة رمزية لرمي تلك الروح الفاسدة في باب اللعنة الأبدية، كما إصرارهم على إسقاط تماثيله التي أرادها وسيلة مادية لترسيخ وجوده الفاني رغم أنف السوريين، كما إعلان حضوره البوليسي عليهم في كل مطرح وفي كل حين.
اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد وساسوكي
على الرغم من العطب الحقيقي الذي أصاب ظاهرة تعظيم الأسد إثر خروج الناس للمطالبة بحقوقهم السياسية، فإن محاولات السلطة الأسدية لترميم ذلك العطب ظللت قائمة على قدم وساق، سواء عبر محاولاتها المستميتة لإعادة ترميم التماثيل الأسدية وإعادتها للميادين، أو عبر البحث عن رموز وشعارات جديدة تضمن الحد الأدنى من التضامن بين أنصار النظام المكلومين أنفسهم هذه المرة. وما محاولات تسويق الخطاب الرسمي عن المؤامرة الكونية والنصر الإلهي المؤزر عليها، سوى حلقة طويلة من حلقات التضامن الأخويّ بين الأنصار المنخرطين في الدفاع عن الاستبداد ورموزه، الذين لم يتورعوا عن إعادة الاعتبار للحذاء العسكري، ورفعه إلى مستوى الرمز الوطني الكبير، الذي رأي فيه الفنان الدرامي بسام كوسا تاجًا وطنيًا عظيمًا، لا يقل عظمة عن الرموز الوطنية الأخرى كالعلم الوطني والنشيد والبراميل المتفجرة العمياء.
اقرأ/ي أيضًا: